[لا بديل عن التربية]
إن التغيير المنشود لللأمة يستلزم تربية أفرادها تربية صحيحة متكاملة، والتربية تحتاج إلى استمرارية ممارسة معانى الإسلام، من خلال وسط تربوي تتم فيه المعايشة والتعاهد وبث الروح وضبط الفهم وتوجيه الجهد واستنهاض الهمم .. هكذا فعل محمد صلى الله عليه وسلم وهو يبنى الأمة الجديدة .. تأمل قوله تعالى وهو يخاطبه
{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا .. } [الكهف:٢٨].
لقد كان محمد صلى الله عليه وسلم يقوم على تربية أصحابه وتعاهدهم ودوام توجيههم، وذلك في المرحلتين المكية والمدنية .. ففي مكة كان يمارس ذلك من خلال تواجده المستمر بينهم، ولقائه الدائم بهم في دار الأرقم بن أبي الأرقم عند الصفا، وفي المدينة استمر في التربية والتعليم من خلال المسجد، ومن خلال التواجد المستمر بين أصحابه ومعايشتهم ومتابعة أحوالهم {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة:٢].
[ضرورة المعية والصحبة]
لابد إذاً من أن يقوم الدعاة بالتواجد بين الناس وممارسة معاني الإسلام معهم حتى يتم التغيير المنشود، ولقد كان هذا هو دأب الرسل -عليهم الصلاة والسلام- تأمل قوله تعالى في قصة هود عليه السلام {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ} [هود:٥٨].
وفي قصة شعيب عليه السلام: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الأعراف:٨٨]
وفي قصة موسى- عليه السلام-: {اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ} [غافر:٢٥].
فالملاحظ في هذه الآيات قوله تعالى عن اتباع كل رسول {الَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ} وهى مهمة زائدة على"آمنوا به"، فلفظ (مع) يعطى دلالة على المعية والصحبة والمعايشة كمرحلة ضرورية بعد الإيمان به، وهذا يحمل في طياته بعض الدلالات على أن كل رسول كان يقوم على تربية من يؤمن بالدعوة، ولا يكتفي بإبلاغهم فقط.
إن الرسل عليهم السلام -كما يقول د. عبد الستار فتح الله- لم يأتوا بدعوات مجردة، يلقونها في الناس ثم يمضون إلى بيوتهم مطمئنين، وكأنهم قد أدوا ما عليهم من أمر الرسالة، والدعوة، والبلاغ. وإنما الذى يقرره القرآن العظيم أن الرسل عليهم السلام كانوا يجمعون الناس على أمرين: الإيمان، والمعية، ويجعلون من المؤمنين أمة واحدة، وجماعة جديدة، مترابطة الوجهة والحركة" (٧).
ويستطرد قائلا: "يورد القرآن العظيم لفظ (مع) بياناً لعلاقة المؤمنين برسلهم في مختلف العصور، والتي تتطلب (أمة جديدة) من المؤمنين، يناط بها مسئولية الجهاد الدائب لإقامة حكم الله في الأرض، أو بعبارة أدق: لإعادة الناس إلى الإسلام دينهم الأصلي الذى خُلقوا عليه، ثم طمرته الأهواء والشهوات والضلالات.
إن العلاقة بين المؤمنين ورسلهم لم تكن مجرد رابطة الإيمان بدين واحد فقط، وإنما هي تجمع مترابط الأصول والفروع، والرأس والأعضاء، يشد بعضه إلى بعض برباط الإيمان أولاً، ثم المعية والصحبة المستقرة على وجه الانقياد والتبعية للدعوة ثانياً، مع مايحمله ذلك من توحيد في الوجهة والسلوك، والمواقف، والعمل لنصرة دين الله .. والاستمرار على ذلك حتى يأتي وعد الله الحق، أو يموت الرسول والمؤمنون وهم على محجة الطريق، ونوراليقين" (٨).