للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وتتجلى عبقرية الأمة في طبيعة حضورها، لأن الحضور يتفاوت في الدرجة والنوع، وهذا يقتضي امتلاك مقياس أو معايير لتقويم التجارب الحضارية للجماعات الإنسانية. ويغلب على المناهج التاريخية أن تقيس التقدم الحضاري بـ"الكم"، والكم يستعين بوسائل موضوعية مختلفة؛ كرصد الإنجازات الحضارية مع مراعاة قيمتي الكثرة والتراكم، بالإضافة إلى قياس نسبة الانتشار والتوسع. ويرفض توينبي المعيار الكمي لتقويم التجارب الحضارية إذا تم غضّ الطرف عن المعيار الكيفي (١)، بل يشدد حسين مؤنس في لفت الأنظار إلى ضرورة توافر معيار أخلاقي في التقويم الحضاري (٢)!! ومع ما في هذا الرأي من وجاهة، وأنه ينسجم مع منظومتنا الفكرية، فإن المعيار الكيفي يحتوي ضمنًا مخاطر تسلب نتائجه صفة الوثوقية والحياد وبالتالي الإلزام، لأن القول فيه بالرأي، والرأي يستند إلى مرجعيات مختلفة وثقافات ونظريات متغايرة، ولا مجال فيه للاتفاق أو المحاجّة


(١) توينبي، أرنولد: مختصر دراسة للتاريخ، ١/ ٣١٧ - ٣١٨، ٣٢٠.
(٢) فالنظر إلى الأهرامات على أنها عمل معماري عظيم مع التغاضي عن الضحايا التي كلفت إنشاءه، هو انبهار بالآثار الظاهرة وإهمال لحقيقتها غير الأخلاقية، وكذلك الشأن في حادثة الصعود إلى القمر لإثبات التفوق وإعلان السيطرة واستغلال الفضاء الخارجي في سباق التسلح! ينظر: مؤنس، حسين: الحضارة، ص١١.

<<  <   >  >>