تعين خط الانهيار المتفاقم بعدم مرونتها أمام المستجدات، وضيق وعيها بالمتغيرات، وانقطاع صلتها بمعطيات الواقع المادية.
قلنا إن انسحاب الفكرة يترافق بانسحاب القيم، وتراجع الحياة الأخلاقية والروحية للأمة، وإن الفكرة تظلّ - من بعدُ - ترفد الحياة المادية للحضارة وتمدّ في عمرها من خلال منظومة المصالح التي تضمنها، فإذا تعطلت تلك المصالح استكثر الأفراد الجهد، واستكانوا للتواكل والعطالة .. ويتكرس هذا الخطر، ويتحول إلى إحباط، عندما يتكرر شهود فشل الفكرة، وتتراكم كبوات لا تُقال، وينقطع الأمل في تحقيق المصالح المنشودة، فتسقط الذات من بعد الشك في يأس يقينيّ قاتل يحسم الإمكانات لصالح كل ما هو سلبي (١).
[٢ - الوفرة، والترف، وتراخي التحديات]
وقفنا عند الوفرة عندما تكون علّة من علل انهيار الحضارة، وأداةً تخلقُ منافِسِين للفكرة الحضارية. ونعالج ههنا دورها في تشويه خصائص الأمة النفسية؛ تُبطل دافعيتها، وتحوّلها إلى أمة خاملة. يتفق
(١) قد تستعيد الفكرة كثيرًا من طاقتها من خلال حركات التجديد التي تعلن عن تمسك الفكرة بالحياة وعدم إفلاسها النهائي، وتؤكد إصرار الأمة الطبيعي على النضال للوجود والبقاء. نذكّر بهذه الحقيقة ههنا لاستبعاد أي ظن بأن النسق الذي نعرضه لانسحاب الفكرة مطلق وحتمي، ولا يُعترَض باختراقات غير متوقعة، وإنما نقدّم هنا صورة للنسق العام النموذجي الذي تمر به أية حضارة، وهي تعرض له في مجمل تاريخها الكلي، وبالتغاضي عن الدورات الداخلية العديدة التي قد تمر بها حضارة من الحضارات.