للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

تسارعها وقوتها (١).


(١) فرجل الفطرة عندما يأخذ طريقه لكي يصبح رجل الحضارة لا رأسمال له إلا الفكرة والفعالية البشرية .. ينظر: بن نبي، مالك: شروط الحضارة، ص٥٠، ٦٠. ولأجل ذلك يرى توينبي أن النقص في الميادين العلمية والتقنية، وضعف السيطرة على البيئة المادية، ليس علة في سقوط الحضارة، ولكنه مجرد عرض لا أكثر .. ينظر: توينبي، أرنولد: مختصر دراسة للتاريخ، ١/ ٤٢٨. ولعل انحلال الاتحاد السوفييتي من أوضح الأمثلة على هذا، فقد قدّم برهانًا قاطعًا على عدم صلاحية الشيوعية بوصفها فكرة حضارية ونظامًا اجتماعيًا وبرنامج عمل وإدارة، وعلى الرغم مما ورثته روسية الحالية عن الاتحاد السوفييتي من قوة عسكرية جبارة، وصرح علمي مشيد، فإن افتقارها إلى فكرة مؤسِّسة يبدد الظن بإمكان نهوضها ما دامت محافظةً؛ فكريًا وثقافيًا، على موقع التابع لدول أوروبة الغربية .. والتبعية الثقافية هي العامل الجوهري نفسه الذي نظن أنه سيؤدي قريبًا إلى انهيار اليابان حضاريًا، ولن يعيق هذا المصير ما نعجب له كلنا من قوة اقتصادية وإبداعية لا نظير لها لدى الشعب الياباني، لأن الفكرة الحضارية التي قامت عليها نهضة اليابان الحديثة ترتبط بديانة الشنتو التي تلقت فيما بعد الحرب العالمية الثانية ضربات قاصمة نتيجة الهزيمة أمام الغرب، والاحتكاك غير المضبوط بالغرب والانكباب على تقليده ومحاكاته، وتفشي الروح العلمية والتيار العقلي، فانحصرت ديانة اليابان ومصدر قيمه الروحية في دور العبادة وتقاليد التراث وتقلصت سلطتها في الحياة العامة دون توافر بديل ينهض بثقل العبء الحضاري، ينظر: توينبي، أرنولد: مختصر دراسة للتاريخ، ١/ ٤٥٦ الحاشية٣. ويبدو أن افتقار الأمّتين؛ الروسية واليابانية، إلى فكرة حضارية مؤسِّسة هو واحد من الأسباب القوية وراء كونهما الأكثر انتحارًا في العالم، وما لم تتبنّ كل منهما فكرتها الحضارية الخاصة التي تعيدها إلى مستوى الفعالية الحضارية من جديد، فإن القوة المادية لكل منهما ستنجح فقط في تأخير هذا الانهيار لا تعطيله. وهذا الخطر يواجه الغرب عامة لأنه لم يقدر مؤخرًا على تجديد فكرته الحضارية، ولم تنهض لقيادته عصبية قومية جديدة سليمة من عاهات الترف والانحلال الأخلاقي!

<<  <   >  >>