للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الإنجازات (١). وتؤول الحضارة إلى الانهيار الوشيك وعدم الفعالية الواقعية عندما ينعدم الدافع؛ أي عندما تفلس الفكرة، وتتعطل المصالح أو تتصادم. صحيح أن هذا المآل متحقق في أواخر سني الحضارة، بيد أن سوسة الانهيار تبدأ في النخر في عمقها في مراحل متقدمة جدًا توافق بواكير إنجازاتها، وتتجذر حين تبلغ ذروتها .. ومن هنا فإن علل الانهيار تكون في الأكثر خادعة، ومظاهرها مواربة متوارية، تتمازج بالغايات، وتتحد بالمصالح، ولا يمنع من تحكمها إلا قوة الاندفاع، وسلطان الحركة، ورفضات التجديد والإحياء!

يستغل الانهيار نقاط الضعف حيثما كانت ليؤسس لنفسه، وليس من الضروري لآثاره أن تتوازى وتتزامن، لأن الحضارة في انطلاقتها لا تتحقق دفعة واحدة في مستويات الحياة كلها، وهي كذلك في انطفائها، وذلك لاختلاف الدافع المحرك لأنواع الإنجازات والنشاطات المختلفة، ولتفاوت في طبيعة الإمكانات المتوافرة. تهيّئ الفكرة الحضارية لوجود أنماط متنوعة من الدوافع الكلية والفرعية، وهي تشترك فيما بينها، أو تفترق، في تحفيز حزمة معينة من الإنجازات والنشاطات، وهذا يقتضي ألا تصير الحضارة إلى الانهيار دفعة واحدة، بل يبدأ الانهيار في تلك المستويات التي يتخامد


(١) بل إن توينبي قد ذهب إلى أن الحضارة الآخذة في التحلل تحقق عالميتها في تلك المرحلة، لتكون الدولة العالمية "وسيلة تُمهل عملية انحلالها"، ولتكون ذروة القوة والانتشار "دلالة على انحلال الحضارة"، توينبي، أرنولد: مختصر دراسة للتاريخ، ١/ ٤١٠ - ٤١١.

<<  <   >  >>