للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

لا تنهض أمة بثقل المهمة الحضارية ما لم تمتلك في ذاتها خصائص نفسية تؤهلها للنهوض بتبعات الالتزام الحضاري، وبقدر ما هي - أي الخصائص - شرط فإنها نتيجة أيضًا، وقد تطرقنا إلى شيء من تلك الخصائص في تضاعيف كلامنا على شروط الحضارة، فالإيمان اليقيني بفكرة واضحة، والتحديات القاسية، يصقلان معًا الشخصية، ويمدّانها بالدافعية والصلابة اللازمتين للحركة والتغيير، وهما تتقلصان بفعل عوامل هدم الحضارة ذاتها التي تعمل على تحطيم الصلابة النفسية للأمة، وتشويه خصائصها الإيجابية، وفي المنقلب تؤدي تلك الخصائص المعدَّلة إلى عرقلة عجلة التقدم الصاعدة، وتعطيل الفعالية المعتادة، وردّ الأمة إلى طور السكون من جديد.

في تعلقه بالبداوة، كان ابن خلدون يبحث عن مقومات رجل الفطرة، ويطلب تلك الخصائص الضرورية لتشكيل شخصية رجل الحضارة وتأهيله، وقد وجدها متعيِّنة في فئة اجتماعية خاصة هي "البدو"، بما لديهم من كمال صفات الفطرة، ودواعي الخير المهيِّئة لكمال الفاعلية، واستحقاق الغلب، والقيادة الحضارية (١). وإذًا، فإيثاره للبدو ليس إيثارًا لفئة اجتماعية بعينها، على الرغم من أنه صرح بذلك في أكثر من موضع (٢)، كما أنه لا يعني أن من فاتته البداوة


(١) "فهم أقرب إلى الفطرة الأولى ... وأقرب إلى الخير من أهل الحضر .. "، ينظر: ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون - المقدمة، ١/ ١٥٤.
(٢) ويبدو أنه بسبب من تلك الخصائص جنح ابن خلدون إلى الاعتقاد بالأفضلية المطلقة للبدو على الحضر، وحاول أن يبرهنه بتأويل بعض النصوص، بل بالجور في التأويل أحيانًا، مع أنه معلوم أن العرب تذم التبدّي أو التعرُّب (وهو الدخول في الأعراب)، ومما يرويه ابن خلدون نفسه عن المهاجرين أنهم كانوا "يستعيذون بالله من التعرُّب وهو سكنى البادية"، وقد ذمّ القرآن الكريم الأعراب في أكثر من موضع، أي إن التبدي ليس الظرف الشرطي للحضارة، ولكنه الخصال والخصائص النفسية والاجتماعية اللازمة للتحضر، على ما سنبين لاحقًا. ينظر: خلدون: تاريخ ابن خلدون - المقدمة، ١/ ١٥٤ - ١٥٥.

<<  <   >  >>