ولا نصدق، فحين ظهر دليله وبان، وقام بوجوده البرهان، ترحلنا من ذلك الخان، وفارقنا ذلك المكان، وسرنا نقتفي البيداء، ونعتلي كل ثنية جرداء، والشمس محجوبة عن الأبصار، والمطر تجلبه إلى تلك الأمصَار من جنود السحاب أنصار، ومن بعوث الرياح إعصَار، والنفوس منحصرة من ذلك غاية الانحصار، فلما تعالى النهار، انبثق ريق بناء ذلك الغيم عن مائه وانهار، وأرسل إلى الأرض مطراً كالأنهار، فصيَّر كل قرارة حفيراً، وغادر كل ربوة غديراً، وخطّ كل طريق خطاً، وجعل كل جانب شطاً، وكثرت بالأوحال الأوجال، ولم يبق للنفوس في ميادين الصَّبر مَجال، ولم نزل نسير على تلك الأحوال، وأكفّنا مرفوعة بالدُّعاء والابتهال، إلى أن وصلنا بلدة أُسْكُودار وقت الزوال، فذهب ذلك الكرب وزال، ثم نزلنا في المُعديّة قاصدين المدينة العظمى قُسْطَنْطِينيّة، ولما (فرغنا من الأرض وصحوها ومسراها وممشاها) وضمت إلينا تلك السفينة ودخلناها قلنا لمن معنا (اركَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللهِ مَجْرَاها ومُرْسَاها إنَّ رَبِيّ لَغَفُورٌ رَحِيم (فرحمنا الله بريح موافق مستقيم تسخر لنا به ذلك البحر، فامتطينا بركوبها
مطاه، وتذلل لنا فصفعنا بأجنحتها قفاه، ولم تزل تسير بنا ونحن قعود، وقد خدمتنا في هذه الخطرة السعود، وأنجزت لنا ببلوغ المقصود الوعود، فوصلنا أصيل ذلك اليوم إلى الساحل، وانطوت بحمد الله شقة تلك المراحل.
ثم دخلنا المدينة، وحصلت إن شاء الله تعالى الطمأنينة، وكان استقرارنا بالمنزل الذي أفرده لنا السيد وتفضّل، وذلك النهار الذي هو يوم الخميس ثاني عشر الشهر قد تحوّل، والليل الذي هو مسفر عن يوم الجمعة قد عَوّل، والقلب يصبو لمنازله ولا كأوّل