للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بين البدن والروح]

[وقوله صلى الله عليه وسلم: (وروح منه) قال أبي بن كعب: عيسى روح من الأرواح التي خلقها الله عز وجل واستنطقها بقوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:١٧٢] بعثه الله إلى مريم فدخل فيها.

رواه عبد بن حميد، وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند، وابن جرير، وابن أبي حاتم وغيرهم].

هذا يقتضي أن الأرواح مخلوقة قبل الأبدان، كما هو ظاهر من أثر أبي بن كعب، وقد اختلف في هذه المسألة، اختلف العلماء فيها، وجاء في القرآن قول الله جل وعلا: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:١٧٢]، وفي قراءة: ((ذرياتههم)).

وقالوا: إن هذا يدل على أن الأرواح مخلوقة قبل الأبدان، وأن الله خلقها ثم استنطقها.

أي: طلب نطقها، فاستشهدهم قائلاً لهم: (ألست بربكم)؟ فأقروا بذلك، فقالت الأرواح: (بلى) فشهدوا، وتمام الآية: {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف:١٧٢ - ١٧٣].

فذكر في هاتين الآيتين علتين مانعتين من كونه لا يفعل ذلك: العلة الأولى: لئلا يغفلوا عن أمر الله وعن تكليفه، ((أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين) يعني: لئلا تقولوا أي: لئلا تحتجوا بالغفلة.

فإن الله استنطق هذه الأرواح واستشهدها حتى لا تحتج بأنها كانت غافلة.

الثانية: ألا يحتجوا بالتقليد، بأن يقولوا: وجدنا آباءنا مشركين يعبدون غير الله فاتبعناهم على ذلك، وما علمنا أنهم على باطل.

ولهذا قال: ((أفتهلكنا بما فعل المبطلون)).

ومقتضى هذا أن هذا الاستنطاق وهذا الاستشهاد يكون حجة قائمة عليهم -على الخلق- حتى لا يدعوا أنه ما جاءهم أمر من الله يمنعهم من التقليد ومن الغفلة.

ومعلوم أن كل أحد من الناس اليوم لا يشعر بهذا العهد الذي أخذه الله وهذا الميثاق الذي أخذ على روحه، فكيف يكون حجة وهو لا يعلمه ولا يدري عنه شيئاً؟ فهذا مما يرد على هذا القول.

والقول الثاني: المراد بأخذ الميثاق الفطرة التي أودعها الله جل وعلا في خلقه، حيث إن كل إنسان فطر على معرفة الله وعلى قبول الحق إذا جاءه، وهذا من الآيات التي تكون مستكنة في الإنسان، ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة)، والفطرة المقصود بها قبول الحق وكونه مستعداً له، وكونه أيضاً سالماً من الانحراف، وكونه محباً لعبادة الله جل وعلا مريداً، فهذه هي الفطرة، وهي في الواقع لا يخلو منها مولود، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما يغير هذه الفطرة المربي من الوالد والوالدة أو المعلم الذي يتولى تربيته، فهم الذين يغيرونها، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في تمام الحديث: (فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه).

فمعنى هذا أن أولاد الكفار ولدوا مستعدين لقبول الحق وإرادته وكونهم فطروا على ذلك، فيكون شاملاً عاماً لكل أحد؛ لقوله: (كل مولود)، وهذا ظاهر واضح.

وكذلك احتجوا بحديث عبد الله بن مسعود المتفق عليه في الصحيحين، وهو قوله رضي الله عنه: (حدثنا الصادق المصدوق: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً.

نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد)، فقوله: (فيبعث إليه الملك فينفخ فيه الروح) معناه أن البدن خلق قبل الروح.

وأجاب أهل القول الأول عن هذا بأن هذا لا يدل على أن البدن خلق قبل الروح، بل كانت الأرواح مخلوقة ثم ترسل إلى أبدانها شيئاً بعد شيء، وهناك حجج غير هذه، والمقصود أن هذه مسألة خلافية.

والقول الذي ذكره أبي مشهور جداً، وفيه آثار كثيرة عن السلف، وأكثر المفسرين الذين تكملوا على قوله جل وعلا: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف:١٧٢] لم يذكروا إلا هذا القول، ولم يذكروا القول الثاني، فيكون ذلك واضحاً وظاهراً في أن روح عيسى عليه السلام كسائر الأرواح التي خلقت يوم خلقها الله جل وعلا واستنطقها واستشهدها.

[قال الحافظ رحمه الله: وَوَصفه بأنه منه، فالمعنى أنه كائن منه.

كما في قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:١٣]، فالمعنى أنه كائن منه، كما أن معنى الآية الأخرى أنه سخر هذه الأشياء كائنة منه، أي أنه مكون ذلك وموجده بقدرته وحكمته تعالى.