للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ثم قال مؤكدا لما قدمه، وهو يخاطب نفسه: فما يديم سرور لك ما سرك وأنسك، ولا يرد الحزن عليك ما فاتك وأوحشك، فكلا الأمرين سريع الزوال، وما شهد منهما قريب الانتقال، وما كانت هذه حاله، فالسرور منه لا تكثر الغبطة به، والحزن فيه لا يشتد الأسف له.

مِمَّت أَضَرَّ بأَهْلِ العِشْقِ أَنَّهُمُ ... هَوُوا وما عَرفوا الدُّنيا ولا فَطَنُوا

تَفْنَى عُيُونُهُمُ دَمْعَاً وأَنْفُسُهُمْ ... في إِثْرِ كُلَّ قَبِيْحٍ وَجْهُهُ حَسَنُ

يقول: مما أضر بأهل العشق فأعماهم عن رشدهم، وزين لهم ما تمسكوا به من أمرهم، وقصرهم على الأسف، ووكلهم إلى الوجد والشغف، أنهم هووا جاهلين بالدنيا وتصرفها، غافلين عن التفطن لتقلبها، فاغتروا بالظواهر، وأعرضوا عن النظر في العواقب.

ثم قال: تفنى عيونهم بما تذرفه من الدمع، وتذهب أنفسهم بما يتعذب به من الحزن في أثر كل حبيب، قليل الإنصاف والود، قبيح المعتقد والعهد، يهجر من يكلف به ويحبه، ويقطع من يواصله ويوده، وهو مع قبيح هذه الخلائق، ومستكره هذه المذاهب، يروق الأبصار بحسنه، ويغلب على القلوب بدله.

تَحَمَّلوا حَمَلَتْكُمْ كُلُّ نَاجِيَةٍ ... فَكُلُّ بَيْنٍ عَلَيَّ اليومَ مُؤْتَمَنُ

مَا في هَوَادِجِكُمْ مِنْ مُهْجَتِي عِوَضٌ ... إِنْ مِتُّ شَوْقاً ولا فِيْهَا لَهَا ثَمَنُ

الناجية: الناقة السريعة، والبين: الفراق، والهوادج: مراكب مقببة، تتخذ للنساء على الرحال.

فيقول مخاطبا لأحبته، ومظهرا للجلد على بعدهم، وقلة الأسف على فقدهم: تحملوا؛ حملتكم كل ناقة سريعة السير، قوية حثيثة المشي؛ ليكون ذلك أقرب فيما تحاولونه من الرحلة، وتتسرعون إليه من الفرقة، فكل بين علي اليوم مأمون لا تحذر عاقبته، محتقر لا تتوقع عاديته.

<<  <  ج: ص:  >  >>