للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ثم قال: يخاطبهم: ما في هوادجكم من الأحبة الذين أذنتم بنأيهم، وأزمعتم على بعدهم، عوض من مهجتي التي أعرضها التلف؛ لتكلف الشوق إليهم، وأشافه بها الموت؛ بملازمة الحزن عليهم، فليسوا في الحقيقة عوضا من نفسي التي أتوقع هلاكها، ولا بهم ثمن لحياتي التي أخاف هلاكها، والحظ لي في السلو عن حبهم، واستشعار اليأس من قربهم.

يا مَنْ نُعِيْتُ على بُعْدٍ بِمَجْلِسِهِ ... كُلٌّ بما زَعَمَ النَّاعونَ مُرْتَهَنُ

كَمْ قد قُتِلْتُ وَكَمْ قَدْ مِتُّ عِنْدَكُمُ ... ثُمَّ انْتَفَضْتُ فَزَالَ القَبْرُ والكَفَنُ

نعي الرجل: الإخبار بموته، والمرتهن بالشيء: الموقوف عليه، المتخذ مقام الرهن عنه.

فيقول، وهو يريد سيف الدولة: يا من نعيت بمجلسه، على بعد داري من داره، وانتزاح محلي عن محله، كل واحد منا مرتهن بما ذكره الناعي له من الموت الذي لا بد منه، ولا محيص لأحد عنه، والشمات في ذلك ساقط، والحرص فيه من المتربصين زائد، والناس في الموت إسوة، وليس بهم على استدفاعه قوة.

ثم قال، وهو يريد سيف الدولة: كم قد مت عندكم وفقدت، واخترمتني المهالك وقتلت، ثم انتفضت فزال الكفن والقبر، وكذب ذلك الخبر والذكر.

قَدْ كَانَ شاهِدَ دَفْنِي قَبْلَ قَوْلِهِم ... جَمَاعَةٌ ثُمَّ مَاتوا قَبْلَ مَنْ دَفَنوا

ما كُلُّ ما يَتَمنَّى المَرْءُ يُدْرِكُهُ ... تَجْرِي الرَّيَاحُ بِمَا لا تَشْتَهي السُّفُنُ

يقول لسيف الدولة معرضا بتربصه به، وما يعتقده من الضغينة له: قد كان شاهد دفني قبل الذين نعوني عندك، وقطعوا على موتي في مجلسك، جماعة حققوا ذلك وقرروه عندك، ثم مات أولئك المخبرون، وبقيت بعدهم، وسلمت، وأكذب الله قولهم، فهلكوا قبل من دفنوه بزعمهم، وتلفوا وما استضررت بكذبهم.

ثم قال: ما كل ما يتمنى المرء يظفر به، ولا كل ما يرتجيه يتيسر له، فقد تشتهي

<<  <  ج: ص:  >  >>