فيقول: فغادر ما آثرته من هجركم، واخترته من الفرار عنكم، ما بيني وبينكم، مفازة مقفرة، بعيدة متنائية، تكذب العين فيها صاحبها لبعد مسافتها، ولا تحقق الأذن فيها ما تسمعه، لكثرة تخيل أصواتها.
ثم قال: تحبو الإبل فيها بعد رسيمها، وتزحف معيية بعد شدة مسيرها، وتسأل ثفانها الأرض عن أخفافها الممتحقة، وينحتها عما تطؤها به من فراسنها الذاهبة المتمحقة.
إِنَّي أُصاحِبُ حِلْمي وَهو بي كَرَمٌ ... ولا أُصَاحِبُ حِلْمي وهو لي جُبُنُ
ولا أُقيمُ على مالٍ أُذَلُّ بِهِ ... ولا أَلَذُّ بما عِرْضِي بِهِ دَرِنُ
الدرن: الوسخ.
فيقول: إني أصاحب حلمي إذا كان بي كرما وتجاوزا، وأوثره إذا كان إغضاء وتغافلا، ولا أصاحبه إذا كان عجزا وجبنا، ولا أرتضيه إذا كان ذلة وخورا.
ثم قال: ولا أقيم على مال أذل بكسبه، ولا أغتبط بوفرة لا تقترن لي الكرامة بجمعه، ولا ألذ بما يدنس عرضي ويخلقه، ولا أسر بما يحط من قدري ويضعه، فأشار إلى أن مفارقته لسيف الدولة إنما كانت لتقصيره به، وزواله عنه إنما أوجبه قلة إكرامه له.
السهر: معروف، والمرير: الاعتزام، والوسن: النوم، والقمن بالشيء: الخليق به، يقال: فلان قمن لذلك وقمن وقمين: كل ذلك بمعنى واحد.
فيقول، وهو يريد سيف الدولة، سهرت بعد رحيلي عنكم استيحاشا لبعدكم، وارتمضت توجعا لفقدكم، ثم استمر عزمي على مفارقتكم، ووطنت نفسي على مصارمتكم، وارعوى الوسن فراجع نافرة، واطمأن فعاود شارده.