قدم أبو شجاع فاتك (المعروف بالمجنون) من الفيوم إلى مصر، فواصل أبا الطيب، وحمل إليه هدية قيمتها ألف دينار، فقال يمدحه، أنشدها لتسع خلون من جمادى الآخرة، سنة ثمان وأربعين وثلاث مائة.
لا خَيْلَ عِنْدَكَ تُهْدِيها ولا مَالُ ... فَلْيُسْعِدِ النُّطْقُ إِنْ لم يْسْعِدِ الحَالُ
واجْزِ الأَمِيْرَ نُعْمَاهُ فَاجِئَةٌ ... بِغَيْرِ قَوْلٍ ونُعْمَى النَّاسِ أَقْوَالُ
فَرُبَّما جَزتِ الإحْسَانَ مُوْلِيَهُ ... خَرِيْدَةٌ مِنْ عَذَارى الحَيَّ مِكْسَالُ
الفاجئ من الأمور: الذي يرد بغتة، والخريدة: الحيية من النساء، والعذارى: الأبكار، والمكسال من النساء: التي لا تكاد تبرح من موضعها.
فيقول مخاطبا لنفسه، ومشيرا إلى ما ابتدأه به فاتك من فضله: لا خيل عندك تقارض بها من تاحفك بخيله، ولا مال تجازي به من وصلك بماله، فإذا قصر بك يسارك ووفرك، فليسعدك على المقارضة لسانك وشكرك.
ثم قال مشيرا إلى فاتك: وأجز الأمير الذي يفجأ إنعامه وفضله، فيسبقان مقاله ووعده، وأكثر نعم الناس أقوال لا حقيقة لها، وعدات لا يتصل الإنجاز بها.
ثم قال: فربما جزت الإحسان الخريدة الحفرة، والعذراء المكسال المستترة، بحسن اعترافها بالفضل، ومقابلته ببذل المجهود في الشكر. ومن قابل الإحسان بنشره، فهو كمن جازى عليه بفعله.
وإِنْ مُحْكَمَاتُ الشُّكْلِ تَمْنَعُني ... ظُهُورَ جَرْيٍ فَلِي فِهن تَصْهَالُ
وَمَا شَكَرْتُ لأَنَّ المَالَ فَرَّحَنِي ... سِيَّانَ عِنْدي إكثارٌ وإقلاَلُ
لكِنْ رَأَيْتُ قَبيْحا أَنْ يُجَادَ لَنَا ... وَأَنَّنا بِقَضَاءِ الحَقَّ بُخَّالُ
المحكمات: المتقنات، والشكل: القيود، الواحد: شكال، والتصهال: صوت الفرس، والسيان: المثلان، والبخال: أهل الشح والضنانة، واحدهم باخل.
فيقول: وإن قيود الإقلال، ومحكمات شكل الإقتار، تمنعني من مجازاة أهل الكرم، ومساواة المتفضلين بالنعم، فلي فيهم بما أنظمه من الشعر، وما أخلده من الشكر،