قد جعلت للأخبار مجالا تستعمل في ذكره، ومكانا تتصرف في مثله، وصيرت الكواكب مع علو مواضعها، وارتفاع منازلها، تأمل من يديك زيادة في الرفعة، واستكثارا من علو الرتبة.
وهذا من الغلو الذي أشار فيه بذكر ما لا يمكن إلى إحراز غاية ما يجوز ويمكن.
إِنْ كُنْتَ تَكْبُرُ أَنْ تَخْتَالَ في بَشَرٍ ... فإِنَّ قَدْرَكَ في الأَقْدَارِ يَخْتَالُ
التنبال: القصير من الرجال، والاختيال: إظهار الزهو والعجب.
فيقول مشيرا إلى فاتك: وقد أطال لساني بالثناء، وفتح لب باب المدح والإطراء، جلالة قدر من مدحته، وكثرة فضائل من وصفته، وإنما أنا في ذلك ذاكر لما عاينت، ومخبر عما شاهدت، والثناء إنما يقصر على التقصير الحال، الراغب عن الكرم والإفضال.
ثم قال، يخاطب فاتكا: إن كنت تكبر عن استعمال الاختيال والزهو، وتكلف التعظم والكبر في بشر أنت منهم، ومن قوم أنت فيهم، فقدرك في أقدار الملوك المتشبهين بك، يختا بجلالته، وينفرد برفعته وفخامته.
كَأَنَّ نَفْسَكَ لا تَرْضَاكَ صَاحِبَها ... إلاَّ وَأَنْتَ على المِفْضالِ مِفْضَالُ
ولا تَعُدُّكَ صَوَّانا لِمُهْجَتِها ... إِلا وأَنْتَ لَهَا في الرَّوْعِ بَذَّالُ
الروع: الفزع.
فيقول: كأن نفسك لا تألفك راضية بفعلك، ولا تصحبك شاكرة لسعيك، حتى يكون كل مفضال إنما يفضل بما تعب له، ويجود بما تعطيه وتبذله.
ثم قال: وكأن نفسك لا تعدك صائنا لمهجتها، ولا تعتقدك ساعيا في مسرتها وغبطتها، إلا إذا ابتذلتها في الروع، بتقحم المهالك، وعرضتها في الحرب لمواجهة المتالف.