للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الهرمان: بناءان عظيمان بأرض مصر، لا يكاد يعرف الباني لهما، وهما ثابتان بحسن بنائهما، غير متغيرين لقوتهما وإتقانهما.

فيقول منبها على أن الدنيا مفنية لأهلها، متنكرة على كل من اغتر بها: أين الذي بنى الهرمين، فدل ببنائهما على قوته، وأبقاهما شاهدين على تمكنه وقدرته؟! كيف تظن بقومه وكثرتهم وتمكنهم وقوتهم؟! وكيف تظن بيومه الذي انصرفت فيه مدته، ومصرعه الذي عجزت عنه قوته؟! أما عفت الدنيا على آثار ملكه، وأفنته ومن استضاف إليه من قومه؟!.

ثم قال مشيرا إلى الهرمين، ونبها على أن الفناء سيدركهما، والخراب سينالهما ويلحقهما: تتخلف الآثار عن أصحابها مدة، فتدل على أحوالهم في القوة ومنازلهم في الاقتدار والبسطة، ثم ينالها ما نالهم من الإنقضاء، ويدركها ما أدركهم من الفناء، فتذهب الآثار كما ذهب المؤثرون لها، وتعدم كما عدم الذين دلوا على أنفسهم بها. هذه حال الدنيا وأهلها، والمعهود من تصرفها وفعلها.

لَمْ يُرضِ قَلبَ أبي شُجَاعٍ مَبلَغٌ ... قَبلَ المَمَاتِ ولم يَسَعهُ مَوضِعُ

كُنَّا نَظُنُّ دِيَارَهُ مَملُوَءةً ... ذَهَباً فَمَاتَ وَكُلُّ دارٍ بَلقَعُ

وإذا المَكَارِمُ والصَّوارِهُ والقَنَا ... وَبَناتُ أعوَجَ كُلُّ شَيءٍ يَجمَعُ

البلقع: الخالية التي لا شيء فيها، وبنات أعوج: الخيل، وأعوج: فحل معروف.

فيقول: لم يبلغ فاتك من الرفعة مبلغا إلا رآه قليلا لنفسه، متواضعا عند جلالة قدره، وكذلك لم يملك جهة من الأرض إلا ضاقت عن همته، وقصرت مع سعتها عن الوفاء برغبته.

ثم قال: كنا نظن مع كثرة جبايته، وسعة أقطاره وولايته، أن دياره مملوءة بالذهب، وأن حاله في ذلك حال الجامع المكتسب، فمات ومال كل دار أن تكون خالية من ساكنها، بلقعا بعد ذهاب عامرها.

<<  <  ج: ص:  >  >>