دخل على أبي الطيب صديق له بالكوفة، وبين يديه طرائف مما أهدى إليه فاتك بمصر، فنظر إلى تفاحة ند وعليها أسم فاتك منقوشا، فأستحسنها فقال أبو الطيب:
يُذَكِّرُوني فَاتِكَاً حِلمُهُ وَشَيءٌ ... مِنَ النَّدِّ فيهِ أسمُهُ
وَلَستُ بِنَاسٍ وَلكِنَّني يُحدِّدُ ... ليْ رِيحَهُ شَمُّهُ
الحلم: معروف، والند: أخلاط مؤلفة من الطيب.
فيقول: يذكرني فاتكا ما شهدته من حلمه، وبلوته من سعة فضله، وشيء من الند يحضر لي، موسوم باسمه، متفاوح بتضوع نشره، ولست بناس لعهده، ولا بمعرض عن التفجع لرزئه، ولكن شم هذا الند جدد لي ما عهدته من ريحه، وذكرني بما شهدته من فوحه.
وَأَيُّ فَتىً سَلَبَتنِي المَنُونُ؟ ... وَلَم تَدرِ ما وَلَدَتْ أُمُّهُ!
ولاَ ما تَضُمُّ إلى صَدرِها وَلَو ... عَلِمَتْ هَالَها ضَمُّهُ
المنون: الموت.
فيقول: وأي فتى سلبتني المنون فيه؟ لم تدر أمه ما ولدت منه في موضعه من الرئاسة والرفعة، ومنزلته من الشجاعة والشدة.
ثم قال: ولا علمت بما تضم فيه إلى صدرها، ومن الذي ترضع منه بثديها، ولو علمت ما له في النجدة وما يبلغه من البأس والجرأة، لهالها إمساكه وضمه، ولأفزعها تقليبه وحمله.
بِمِصرَ مُلُوكٌ لَهُمْ ما لَهُ وَلَكنَّهُم ... ما لَهُمْ هَمُّهُ
وأَجوَدُ من جودِهِمْ بُخلُهُ وَأَحمَدُ ... مِنْ حَمْدِهِمْ ذَمُّهُ
وأَشرَفُ مِن عَيشِهِمْ مَوتُهُ وَأَنفَعُ ... مِنْ وُجدِهِمْ عُدمُهُ
الهم والهمة: بمعنى، والوجد الغنى والسعة، والعدم: الفقر والعسرة.
فيقول: بمصر رجال يساوونه في المال والسعة، والإكثار والجدة، ولكنهم لا يساوونه في علو همته، وكرم شيمته، فأجود من جودهم ما يستقل من هباته،