للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فيحل فيها محل البخل، وأبلغ من حمدهم ما يختصر من ثنائه، حتى يقع لاختصاره موقع الذم.

ثم قال: وأشرف مما يصيرون إليه بالعيش ما أحرزه من الثناء بالموت، وأنفع مما يفعلونه من الإكثار والوجد، ما يفعله مع الإقلال والعدم. ويشير إلى أنه يعجز جهد جميع المحسنين بعفوه، ويتقدمهم بأيسر سعيه.

وإنَّ مَنِيَّتهُ عِندَهُ ... لَكَالخَمرِ سُقِّيهُ كَرْمُهُ

فَذَاكَ الذي عَبَّهُ ماؤُهُ ... وَذَاكَ الَّذي ذَاقَهُ طَعمُهُ

وَمَنْ ضَاقَتِ الأرضُ عَن نَفسِهِ ... حرَّى أن يَضيقَ بِهَا جِسمُهُ

الخمر: تذكر في الأقل وتؤنث في الأكثر، وأحتمل على لغة من ذكر، والكرم: جمع كرمة، وهي شجرة العنب، وحرى (وحري) بمعنى واحد، يراد بهما ما يراد بحقيق.

فيقول، يريد فاتكا، ويشير إلى شجاعته: وأن منيته عنده، في أنسه بها، وقلة تهيبه لها، لكالخمر تسقاه الكرم فيضرب إلى عنصره وينزع به إلى أوله، والموت لفاتك على هذه السبيل؛ لأنه كان يستصحبه في وقائعه، ويقدم عليه في ملاحمه.

ثم قال نحو ما قدمه: فذاك الذي عبه الكرم من الخمر، ماؤه الذي لا يستنكره، كما أن الموت الذي ذاقه فاتك طعمه الذي لا يستكرهه. فأشار إلى أن فاتكا أنسه بالموت ما سلف له به من طول الصحبة، كما أن الكرم أنسه بالخمر كونه منه في حقيقة الخلقة.

ثم قال: ومن ضاقت الأرض عن نفسه، لعلو همته، وما كان عليه من ارتفاع رتبته، فهو حري أن يضيق فيها جسمه، ويرتفع أن تشتمل الأرض عليه قدره.

<<  <  ج: ص:  >  >>