فيقول مخاطبا لقلبه، ومهونا لفراق سيف الدولة على نفسه: حببتك أيها القلب قبل حبك لسيف الدولة الذي نأى عنك، وتباعد منك، وقد كان غدارا في فعله، وغير مقارض لك فيما كنت عليه من وده، فكن أيها القلب راضيا لي بالسلوة عن حبه، والإعراض عن التطلع إلى ذكره.
ثم قال: واعلم أيها القلب أن الذي أنت عليه من الوفاء لمن صحبته، والتعلق بمودة من صافيته، يوجب عليك أن تشجى لبعده، وتستوحش لفقده، فلست فؤادي إن أشكاك ما آثرته في أمره، وما تخيرته من المفارقة لأرضه.
ثم أكد ما قدمه فقال: فإن دموع العين غادرة بربها، ظالمة للباكي بها، إذا كانت جارية في إثر الغادرين به، مستعملة عند ذكر القاطعين له.
إِذا الجُودُ لم يُرْزَقْ خَلاصاً مِنَ الأَذى ... فلا الحَمْدُ مكسوباً ولا المالُ باقيا
وَلِنَّفْسِ أحْوَالٌ تَدُلُّ على الفَتَى ... كانَ سَخَاءً ما أَتَى أَم تَساخِيا
السخاء: معروف والتساخي: استعمال السخاء على غير نية.
فيقول معرضا لسيف الدولة، وبحاله عنده: إذا الجود لم يرزق خلاصا من أذى المستعمل له، حتى يكون سالما غير مكدر، وهنيا غير منغص، فذلك الجود عناء من متكلفه، تعب من متمونه؛ لأنه لا يستفيد به حمدا يدخره، ولا يجر إليه شكرا يكتسبه، وماله مع ذلك ذاهب، وما يسديه من الإحسان ضائع.
ثم قال: وللنفس أحوال ظاهرة، وآثار شاهدة، تدل على الإنسان، سخاؤه إرادة وتطبع، لأن الكريم يغتبط بأياديه؛ فيتابعها ويحتفظها، والمتكلف للكرم يتندم عليه؛ فيضيعها ويفسدها.