للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[معالم بيانية في تقديم الجن والإنس في القرآن الكريم]

قال الله جل وعلا: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} [الحجر:٢٧].

الجن ينسبون إلى إبليس، وأما الإنس فينسبون إلى أبيهم آدم عليه السلام، قال الله جل وعلا في حق الجن: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف:٥٠].

وقال في حق بني آدم يخاطبهم وينسبهم إلى أبيهم: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:٣١]، وكذلك تعددت آيات يخاطب الله جل وعلا فيها الإنس، وقد نسبهم إلى أبيهم آدم.

إذاً: اتضحت بعض المعالم الآن، لما ذكر الله جل وعلا المطالبة بالعبادة التي من أجلها خلق الله الثقلين قدم جل وعلا الجن لأنهم أسبق الخلق، فقال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:٥٦]، فخلق الجن مقدم زمناً على خلق الإنس.

على الوجه الآخر ذكر الرب تبارك وتعالى أولئك الجنود الذين حشرهم لسليمان، وأن سليمان أوتي ملكاً عظيماً، قال جل وعلا: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ} [النمل:١٧]، فذكر الجن ثم الإنس ثم الطير باعتبار القوة، لكن آية الإسراء: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ} [الإسراء:٨٨]، قدم الإنس؛ لأنهم أعرف بالبيان، وأفصح لساناً؛ ولهذا تحداهم جل وعلا جميعاً، والمخاطب في المقام الأول: مشركوا قريش، فد تحداهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن، فقدم الله جل وعلا الإنس؛ لأن الإنس أهل بيان بخلاف الجن، وإن كان يحصل بينهما التحادث والتخاطب قطعاً، إلا أنهم مشهورون بالقوة أكثر من كونهم مشهورين بالبيان والفصاحة.

وإذا عدنا إلى خلق هذين الثقلين فإننا نقول: إن الرب تبارك وتعالى لم يذكر بالتفصيل في كلامه العزيز مسألة خلق الجن، وإنما أرشد جل وعلا إلى أنهم من ذرية إبليس، وأنهم مخلوقون من نار، وأن الجان -كما قال ربنا- مخلوقون من قبل، و (قبل) هنا جاءت في القرآن منقطعة عن الإضافه، والمعنى: من قبل خلق آدم.

أما آدم فقد عني القرآن عناية عظيمة بذكر خلقه صلوات الله وسلامه عليه، وأن ذلك بمراحل عديدة: منها: المرحلة الترابية، ثم مزج ذلك التراب بالماء، فكانت المرحلة الطينية، ثم أصبح ذلك الطين بعد أن ترك فخاراً، فكانت المرحلة الفخارية.

هذه الثلاث هي مراحل خلق آدم عليه السلام، وقد أكرمه الله جل وعلا بأن خلقه بيده، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء، ثم بعد ذلك أكرمه بأن أدخله جنته، وهذا الذي جعل بعض أهل العلم يقول: إن آدم عليه السلام في الصورة المثلى من الخلق، ولما ذكروا خلق يوسف عليه الصلاة والسلام، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في حديث المعراج: (فرأيت رجلاً قد أعطي شطر الحسن)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (شطر الحسن)، الألف واللام هنا: إما أن تكون للعهد اللفظي، أو أن تكون للعهد الذهني، ولا يوجد معهود لفظي في الحديث، فوجب إمراره على المعهود الذهني، فالمستقر عند كثير من العلماء: أن شطر الحسن، أي: أن يوسف عليه السلام على الشطر من جمال أبيه آدم عليهما جميعاً أفضل الصلاة والسلام؛ لأن آدم خلقه الله جل وعلا بيده، فلما خلقه الرب تبارك وتعالى بيده لم تعط هذه المزية لأحد غيره.

وقد قلنا مراراً في هذه الحلقات المباركة: إنه يجب أن نستصحب أنه قد يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل، تقول العرب: يوجد في البئر ما لا يوجد في النهر، ويوجد في النهر ما لا يوجد في البحر، فكون آدم عليه السلام أعطي هذه المزية؛ لأن الله خلقه بيده، فهذا لا يعني أبداً أن آدم أفضل الخلق، فنبينا صلى الله عليه وسلم هو أفضل الخلق جميعاً، ومثال هذا في حياة الصحابة: عثمان رضي الله عنه، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أشد أمتي حياءً عثمان)، ويقول: (ألا أستحيي من رجل تستحيي منه الملائكة) وهذا لا يعني أبداً: أن عثمان رضي الله عنه أفضل من الشيخين أبي بكر وعمر، وفي كل فضل.

<<  <  ج: ص:  >  >>