بداية نقول: زيد هذا هو زيد بن حارثة، وأصل الأمر فيه: أن خديجة رضي الله عنها وأرضاها طلبت من ابن أخيها حكيم بن حزام بن خويلد أن يشتري لها في سفرة له غلاماً ظريفاً، فاشترى حكيم زيداً، وكان قد وجده أسيراً، فاستلطفه جداً وأعجبه، فلما أتى به إلى عمته خديجة رضيت به، وقد قال لها مخاطباً: إن لم يعجبك فأنا أولى به، لكن زيداً استقر عند خديجة التي رأت فيه شاباً نافعاً يخدمها، ثم لما تزوجت خديجة من رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدته زيداً، وعلى الجانب الآخر كان أهل زيد يبحثون عنه، وتنشد أمه الأشعار، ويطوف والده وأعمامه القفار يبحثون عنه، فقدر لهم أن يعلموا أنه بمكة فقدموا مكة وأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن قد نبئ بعد ولم يبعث، فطلبوا منه ابنهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن عرضوا عليه غالي الأثمان: أنا أدلكم على خير من ذلك: أخيره بيني وبينكم فقالوا: قد أنصفت، فأتي بـ زيد فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:(يا زيد! أتعرف هذا؟ قال: نعم هذا أبي، قال: أتعرف هذا؟ قال: نعم هذا عمي، قال: أتعرف هذا؟ قال: نعم هذا أخي، فخيره النبي صلى الله عليه وسلم فاختار زيد البقاء مع رسول الله صلوات الله وسلامه عليه)، فذهل الوالد والعم والإخوة لكنهم لما ذهلوا وحاولوا مع زيد أن يعود معهم ورأوا إصراراً عجيباً من زيد أن يبقى في العبودية، لكنه حظي بشرف البقاء مع محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، وهنالك أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يكافئه وأن يجعل أباه وأعمامه وإخوته يغدون إلى ديارهم وهم مطمئنون على ابنهم فقال صلى الله عليه وسلم مخاطباً أندية قريش:(أشهدكم أن زيداً ابني يرثني وأرثه)، فأضحى بعدها لا يدعى إلا بـ زيد بن محمد، وهذا تاج أصبح متلألئاً بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد سابق زيد إلى الإسلام فأسلم وما زال يعرف بـ زيد بن محمد صلوات الله وسلامه عليه، بناء على ذلك القرار الذي اتخذه عليه الصلاة والسلام في أندية قريش؛ ليطمئن والد زيد عليه بعد غدوه إلى أرضه وإلى أهله، فبعد النبوة كان زيد يرى في هذا اللقب تاجاً على رأسه، ومضت الأيام وخلت السنون، وتوالت الأعوام فهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة والأمر على حاله، ثم جاء القرآن بعد ذلك في زمن المدينة بشرائع لم تكن موجودة في العهد المكي؛ لأن الدولة استقرت، والإسلام اطمأن، وعلت شوكته، وكان مما أنزله الله جل وعلا على نبيه في شأن الأدعياء الذين زيد واحد منهم، أن أنزل الله جل وعلا قوله:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ}[الأحزاب:٥]، وأنزل الله جل وعلا:{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}[الأحزاب:٤٠]، فهذه الآيات نزلت مع أن الله جل وعلا -إضافة إلى ذلك- أراد أن يبطل مسألة: أن العرب كانت تأنف من أن يتزوج الرجل زوجة دعيه، وكان قد تزوج زيد زينب بنت جحش رضي الله عنها وأرضاها، وكانت تجد في نفسها شيئاً عليه، فكان زيد يقدم على النبي صلى الله عليه وسلم فيشكو إليه، والله جل وعلا أخبر نبيه أن زيداً مطلق زوجته وأنه عليه السلام سيتزوجها، فأخفى النبي صلى الله عليه وسلم في قلبه ما أوحاه الله جل وعلا إليه، وكان يأمر زيداً إذا استنصحه أن يبقي مع زوجته، قال الله جل وعلا:{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ}[الأحزاب:٣٧]، أي: بالإسلام، {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ}[الأحزاب:٣٧]، أي: بالعتق، {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ}[الأحزاب:٣٧]، أي: استبقها، {وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ}[الأحزاب:٣٧] يا نبينا! {مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ}[الأحزاب:٣٧]، أي: مظهره من كون أنك ستتزوج زينب لا محالة، فقال الله جل وعلا:{وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا}[الأحزاب:٣٧]، فكانت زينب تفتخر على أمهات المؤمنين أن أهاليهن زوجوهن، وأن الله جل وعلا زوجها من فوق سبع سماوات، فعلى هذا أبطل الله جل وعلا هذا الأمر، لكن الله ذكر زيداً باسمه الصريح -وهذه هي الغاية من هذه الحلقة- نقول: قال العلماء: إن الله جل وعلا لما منع زيداً من ذلك التاج الذي كان يتلألأ على رأسه رضي الله عنه وأرضاه من كونه كان يدعى بـ زيد بن محمد، وكونه صبر على أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج امرأته، وأنها طلقت منه، عوضه الله جل وعلا عن هذين بأن ذكر اسمه صراحة في القرآن، قال الله:{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا}[الأحزاب:٣٧]، فأصبح اسمه ينادى ويتلى في المحاريب؛ لأنه من جملة القرآن إلى يوم القيامة، وهذا شرف لا يباهى، ومجد عز نظيره، وقل مثيله.
وكذلك ربك إذا سلب عبداً نعمة فصبر عوضه الله جل وعلا بأحسن منها.
وفقني الله وإياكم لما يحب ويرضى، وألبسني الله وإياكم لباسي العافية والتقوى.
وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.