[أسرار لفظ: (كلا) في القرآن الكريم]
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا تطيب الدنيا إلا بذكره، ولا تطيب الآخرة إلا بعفوه، ولا تطيب الجنة إلا برؤيته، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها المباركون! فهذه حلقة جديدة مباركة بإذن الله من برنامجكم: معالم بيانية في آيات قرآنية، وقبل أن نشرع كالعادة في بيان ما نحن فيه نقول: إن اللفظ الذي سنشرع في إماطة اللثام البياني عنه في هذا اللقاء هو لفظ (كلا).
ونستفتح بخبر أدبي قبل أن نشرع في بيان مراد الله جل وعلا من هذه الكلمة أو من هذا اللفظ: يقولون: إن الحجاج بن يوسف الثقفي القائد الأموي المعروف أسر شاباً، فجاءته امرأة هي أم ذلك الشاب تحاول أن تقدم نوعاً من الشفاعة لابنها، وهي تخاطب الحجاج أقسمت له أن ابنها بريء، لكن الذي يستوقفنا هنا: هو ذلك القسم الذي استخدمته تلك المرأة، فقد قالت وهي تخاطب الحجاج: والذي حذف كلا من النصف الأعلى.
نحن نعلم أن القرآن ثلاثين جزءاً، وأن أوسطه سورة الكهف في خبر موسى والخضر، وإذا اعتبرنا النسبية يمكن أن نقول: إن هناك نصفاً أعلى ونصفاً آخر من الصعب أن نطلق على الخمسة عشر جزءاً الأخيرة من القرآن: بأنها نصف أدنى، لكن نقول: هناك نصف أعلى، والنصف الآخر هذه المرأة تقول في خطابها للحجاج: والذي حذف كلا من النصف الأعلى أي: أن حرف كلا ليس موجوداً في أول القرآن من الفاتحة إلى الكهف، ثم ورد بعد ذلك في سورة مريم: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا * كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا} [مريم:٧٧ - ٧٩].
فيقولون: إن الحجاج استعرض القرآن وهو يريد أن يركب فرسه، لما قالت له المرأة هذا الخطاب ثم تبين له صحة قولها، فعفا عنها وعفا عن ابنها، وقبل شفاعتها.
والشاهد: أن (كلا) وردت في القرآن في ٣٣ موضعاً كلها كما قدمنا في النصف الآخر من القرآن أي: ليس في النصف الأعلى منه، وجعل بعض العلماء لفظ كلا من الأدلة والقرائن على أن السورة التي يرد فيها لفظ كلا هي سورة مكية، فلم ترد غالباً ويمكن أن نقطع في القرآن المدني، لكن القطع قد يكون نوعاً من الجزم؛ لأن تحرير المدني والمكي فيه نوع خلاف، نعود فنقول: ما هو الحرف كلا؟ كلا كما قال ابن هشام في مغنيه: مركبة عند ثعلب من كاف التشبيه ولا النافية قال: وإنما شددت لامها لتقوية المعنى، ولدفع توهم بقاء معنى الكلمتين، وهي عند سيبويه والخليل والمبرد والزجاج وأكثر البصريين حرف معناه: الردع والزجر، لا معنى لها عندهم إلا ذلك، حتى إنهم يجيزون أبداً الوقف عليها والابتداء بما بعدها، وحتى قال جماعة منهم: متى سمعت كلا في سورة فاحكم بأنها مكية وهذا حررناه آنفاً؛ لأن فيها معنى التهديد والوعيد وهذه صبغة من صبغ القرآن المكي، ورأى الكسائي وأبو حاتم ومن وافقهما أن معنى الردع والزجر ليس مستمراً فيها فزادوا فيها معنى ثانياً يصح عليه أن يوقف دونها ويبتدأ بها، ثم إن هؤلاء اختلفوا في تعيين ذلك المعنى على ثلاثة أقوال: أحدها للكسائي ومتابعيه قالوا: تكون بمعنى حقاً.
والثاني لـ أبي حاتم ومتابعيه قالوا: تكون بمعنى (ألا) الاستفتاحية.
والثالث لـ ابن شميل والفراء ومن وافقهما قالوا: تكون حرف جواب بمنزلته، وحملوا عليه قول الله جل وعلا: {كَلَّا وَالْقَمَرِ} [المدثر:٣٢] قالوا: معناه: إي والقمر.
قال ابن هشام في مغنيه: وقول أبي حاتم عندي أولى من قولهما؛ لأنه أكثر اطراداً، فإن قول النضر لا يتأتى في آيتي المؤمنين والشعراء، وقول الكسائي لا يتأتي في نحو: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ} [المطففين:١٨]، {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ} [المطففين:٧]، {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:١٥]، ووجه العلة في عدم ذلك التأتي عنده: أن حرف (إن) يكسر بعد ألا الاستفتاحية، ولا تكسر بعد حقاً، ولا بعد ما كان بمعناها، ولأن تفسير حرف بحرف أولى من تفسير حرف باسم، وهذا كلام من حيث الصناعة النحوية بليغ جداً، وفيه رد ظاهر عليه.
وعلى هذا نختار قول سيبويه والخليل والمبرد والزجاج وأكثر البصريين على أن معناها: الردع والزجر، وعلى أنه ليس لها معنى غيره.
ونعود لما رد به ابن هشام على أولئك الذين ذهبوا بها إلى معنى آخر فقال: وقد يمتنع كونها للزجر نحو {وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} [المدثر:٣١]، {كَلَّا وَالْقَمَرِ} [المدثر:٣٢]، إذ ليس قبلها ما يصح رده، وهذا القول الذي قاله ابن هشام فيه تضعيف للقول الذي اخترناه، لكن يمكن أن يجاب عنه بأن الأمر في سياق الحال لا في سياق المقال.
وقال بعض العلماء: إن لها معان غير ذلك، فقد قال الطبري وجماعة: إنه لما نزل عدد خزنة جهنم {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:٣٠]، قال بعضهم: اكفوني اثنين، وأنا أكفيكم سبعة عشر، فنزلت: (كلا) زجراً لهم، هذا القول من الطبري يوافق ما اخترناه، لكن قال ابن هشام عنه: إنه قول متعسف؛ لأن الآية لم تتضمن ذلك، ونحن نقول: إن رد ابن هشام هنا فيه هو شيء من التعسف، وإنما كما قلنا: العبارة أحياناً ترد على لسان الحال لا على لسان المقال، والذي نريد أن نصل إليه بعد هذا التطواف -أيها المباركون- فيما ذكرناه حول لفظ كلا: أن القرآن عظيم في أسلوبه، جليل في عباراته، وأن هذا الحرف استخدمه القرآن استخداماً بليغاً في الردع والزجر، ولما كان المجتمع المكي يحتاج إلى نوع من الردع والزجر؛ لأنهم كانت لهم ألفاظهم القاسية في مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم، ومخاطبة القرآن، والرد على الرب تبارك وتعالى قوله، كانت لفظة: (كلا) مناسبة في رد ما زعموه من إفك، وما افتروه من قول.
أما الحياة المدنية في المجتمع المدني فكان أكثرهم مسلمين، وكان القرآن يخاطب قلوبهم، ويخاطب أحوالهم في التشريع، ولم تكن فيه ردود بالقدر الذي كان موجوداً في القرآن المكي.
وعلى هذا نفهم: أن القرآن المكي له أسلوبه، كما أن القرآن المدني له أسلوبه، وقد يشتركان في نوع من الأسلوب خاصة في باب العقائد.
نسأل الله جل وعلا لنا ولكم التوفيق.
هذا ما تيسر إعداده، وتهيأ إيراده، وأعان الله العلي الكبير على قوله، سائلين الله أن يجعلنا وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.
وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.