[أنبياء الله نجوم تتلألأ في ظلمات الليل]
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شعار ودثار ولواء أهل التقوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذه حلقة جديدة مباركة من برنامجكم: معالم بيانية في آيات قرآنية، ونحن بصدد الحديث عن قول الله جل وعلا في سورة الأنعام: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأنعام:٨٣ - ٨٦].
والذي نريد أن نميط اللثام عنه هنا: هو علام يعود الضمير في قوله سبحانه: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ) هل يعود على نوح عليه السلام أم يعود على خليل الله إبراهيم عليه السلام؟ نقول بداية: الأنبياء شامة في جبين الأيام، وتاج في مفرق الأعوام، الله جل وعلا يقول: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:١٢٤]، والأنبياء المذكورون في القرآن خمسة وعشرون نبياً، ذكر الله منهم في الآيات التي تلوناها ثمانية عشر وسبعة جاءوا متفرقين، قال الناظم: في تلك حجتنا منهم ثمانية من بعد عشر ويبقى سبعة وهم إدريس هود شعيب صالح وكذا ذو الكفل آدم بالمختار قد ختموا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
هذه الآيات أثنى الله جل وعلا فيها على خليل الله إبراهيم، والمناسبة بأن الله قال في أولها: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ) العلماء رحمهم الله ذهبوا إلى قولين في عود هاء الضمير في قوله سبحانه: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ): فقال قائلون: بأن الضمير يعود على نوح، وقال آخرون: إن الضمير يعود على إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فما حجة كل فريق؟ إذا قلنا: إنه يعود على نوح يؤيده أمران: الأمر الأول: قواعد اللغة تقول: إن الضمير يعود إلى أقرب مذكور، والأقرب مذكوراً هنا هو نوح عليه الصلاة والسلام.
الأمر الثاني: أن المؤرخين متفقون على أن لوطاً ليس من ذرية إبراهيم فهو ابن أخيه هاران، فـ هاران أخو إبراهيم من حيث النسب، فإذاً: لوط ليس من ذرية إبراهيم لأنه ابن أخيه.
أما من قال: إن الضمير يعود على إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقد قالوا: إن الآيات أصلاً في مقام الثناء على خليل الله إبراهيم، وهذا واضح، وأجابوا عن قول الله جل وعلا: {وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ} [الأنعام:٨٤] بأنها جملة اعتراضية، وأجابوا عن كون إبراهيم عليه الصلاة والسلام عماً للوط وليس أباً له، لأن الله سمى في القرآن العم أباً في سورة البقرة، قال الله جل وعلا: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة:١٣٣]، فالقائلون بهذا القول: هم أولاد يعقوب، ويعقوب أبوه إسحاق، وليس إسماعيل، وإنما إسماعيل أخ لإسحاق، فعلى هذا قالوا: إن الله جل وعلا سمى العم والداً، فأجابوا عن الإشكال الحاصل من كون لوط ليس من ذرية إبراهيم؛ لأن الله سمى العم: والداً.
وعلى هذا يتبين: أن من العلماء من قال: إن الضمير يعود على نوح، ومنهم من قال: إنه يعود على إبراهيم.
وأياً كان الأمر فإن في هذه الآيات ثناء عاطراً من الله جل وعلا على هؤلاء الصفوة المباركة من رسله الكرام، صلوات الله وسلامه عليهم.
واعلم -أيها الأخ المبارك- أن العلماء يسمون نوحاً: شيخ الأنبياء، لأنه أطولهم عمراً، ويسمون إبراهيم: أبا الأنبياء؛ لأن الله جل وعلا حصر النبوة والكتاب بعده في ذريته، قال الله جل وعلا: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [العنكبوت:٢٧]، وظاهر السنة يدل: على أن إبراهيم عليه السلام أفضل من نوح؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال في دعوات ادخرها: (وادخرت الثالثة ليوم يرغب إلي فيه الخلق حتى إبراهيم)، فقوله عليه الصلاة والسلام: (حتى إبراهيم) يدل على أن إبراهيم عليه السلام أفضل الخلق بعد نبينا صلوات الله وسلامه عليه، ولا يعني ذلك: الغضاضة من مكانة نوح عليه السلام، فإنه أول رسل الله إلى الأرض، وقد سماه الله جل وعلا ونعته بأنه كان عبداً شكوراً.
هؤلاء الصفوة المباركة متفق على نبوتهم، وإذا استطردنا في الحديث فإننا نقول: إن ثمة رجال صالحون ذكرهم الله جل وعلا في كتابه واختلف في نبوتهم منهم: ذو القرنين، والخضر، ولقمان، وتبع، وآخرون، أما مريم عليها السلام، فإنه متفق على أنها ليست بنبية؛ لأن النبوة لا تكون في الإناث، قال الناظم: وما كانت نبياً قط أنثى ولا عبداً قبيحاً في الفعال ومن هنا نفهم: أن الله جل وعلا أعطى أولئك الأخيار منازل عالية، ودرجات رفيعة، يحسن بنا التأسي بهم؛ ولهذا ختم الله هذا السياق العظيم في سورة الأنعام بقوله جل وعلا: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:٨٨]، ثم قال جل وعلا بعدها بآية: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} [الأنعام:٩٠].
جعلني وإياكم ممن يقتفي هدي الأنبياء، ويسير على نهجهم، ويتقرب إلى الله جل وعلا بصالح الأعمال التي تقربوا بها، وختم الله بهم نبينا صلى الله عليه وسلم، فهو آخرهم عصراً، وأرفعهم وأجلهم يوم القيامة شأناً وذكراً.
هذا ما تيسر إيراده، وأعان الله جل وعلا على قوله، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.