خطبة المسجد الحرام - ٢٦ رمضان ١٤٣٢ - تدبر الأمثال في القرآن الكريم - الشيخ سعود الشريم
الخطبة الأولى
الحمد لله الكبير المُتعال، ذي العزَّة والجبروت والجلال، له الحمدُ في الأولى والآخرة، وله الحكمُ وإليه المردُّ والمآل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، طيِّبُ الخِصال، صادقُ الفِعال، صلواتُ الله وسلامُه عليه وعلى آله وأصحابه والآل، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - سبحانه -، والاعتصام بحبله المتين، ونهجِه القويم، وإياكم والكسلَ والخُذلان؛ فما نالَ العُلا كسلان، ولا وردَ الصفوة خُذلان، إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف: ٩٠].
أيها الناس:
لله ما أجملَ هذا الشهر المبارك وما أروعه، لله ما أصفاه وأعذَبَه، له حلاوةٌ كحلاوة الشهد وهو يُكرَّر، وله أُنسٌ وطُمأنينةٌ وسكِينة تجعل من لامسَها يتمنَّى أن لو كانت السنةُ كلُّها رمضان.
نعم، عباد الله:
لقد خُضنا خمسة أسداس هذا الشهر المبارك، فكأن شيئًا لم يكن إذا انقضى، وما مضى مما مضى فقد مضى، لقد مرَّت أيامُه كلمحِ البصر، وتناقَصَت لياليه وكأنها أوراقُ الخريف عصَفَت بها الريحُ حثيثةً، فصارت أثرًا بعد ذات وخبرًا بعد كان.
لقد أبحرنا جميعًا في هذا الشهر المبارك مع أطهر الكلام وأصدقه، هو عزٌّ لا يُهزَم أنصارُه، ومنهاجٌ لا يضِلُّ ناهِجُه، هو معدِنُ الإيمان وينبوعُ العلم، هو ربيعُ القلوب والدواء الذي ليس بعده دواء، فيه نبأُ من قبلَنا، وخبرُ ما بعدنا، وفضلُ ما بيننا، يرفع الله به أقوامًا ويضعُ آخرين، ومن تمسَّك به فقد هُدِي إلى صراطٍ مستقيم، وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [المائدة: ٨٣].
هو الكتابُ الذي من قامَ يقرؤه...كأنما خاطَبَ الرحمنَ بالكلِمِ
إننا - عباد الله - لن نجِد قصصًا ولا أمثالاً ولا أخبارًا أصدق منه، ولن نجد أكثر تشويقًا ولا أخذًا للألباب من كلام الباري - جل شأنُه - الذي نزل به الروحُ الأمين على قلب نبينا - صلى الله عليه وسلم - ليكون من المُنذرين بلسانٍ عربي مبين، أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [النساء: ٨٢].
وشهر رمضان المبارك خيرُ فرصةٍ سانحةٍ لأن يعيش المؤمن هذه الأجواء، ويُبحِر بفكره ولُبِّه في أمثاله وعجائبه، وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (١٠٦) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا [الإسراء: ١٠٦ - ١٠٨].
ولو دقَّقنا النظر - عباد الله - في الأمثال المضروبة في القرآن لسمِعنا قرآنًا عجبًا يهدي إلى الرشد، فالله تعالى يقول: وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [الروم: ٥٨].
وقد جاء في القرآن ثلاثةٌ وأربعون مثلاً لا يتدبَّرها ولا يستطعِمُ بلاغتَها إلا من له عقلٌ حيٌّ ولُبٌّ يلمَح، قال أحد السلف: "كنتُ إذا قرأتُ مثلاً من القرآن فلم أتدبَّره بكيتُ على نفسي؛ لأن الله يقول: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت: ٤٣] ".
لقد ضرب الله لنا في القرآن أمثالاً متنوعة لم تكن قاصرةً على خلقٍ دون آخر؛ فقد يضربُ الله المثلَ في نباتٍ؛ كقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ [إبراهيم: ٢٤]، وقد يضرب الله المثلَ بحيوانٍ أعجم؛ كما ذكر عن الذي آتاه آياته فانسلَخَ منها، فأتبعَه الشيطان فكان من الغاوين، وذلك كقوله: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف: ١٧٦]، وقد يضربُ الله مثلاً بالإنسان، كما في قوله: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [النحل: ٧٦].
فلله ما أعظم هذه الأمثال وما أعظم ما تحويه من نهايةٍ في العِظَة والعِبرة، ونهايةٍ في البلاغة وإيجاز اللفظ وحُسن التشبيه وقوة الكناية، ولقد صدقَ الله - سبحانه - إذ يقول: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر: ٢٣].
وإن تعجَبوا - عباد الله -، فعجَبٌ حينما يضربُ الله مثلاً لعباده بأحقر مخلوقاته وأصغرها؛ فقد قال تعالى عن العنكبوت: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت: ٤١]، فهذه حال كل من تعلَّق بغير الله أو خافَ غيرَ الله أو رجا غيرَه أو أرضى الناسَ بسخط الله؛ فمن فقد اللهَ فماذا عساه أن يجِد؟! ومن وجدَ اللهَ فما عساه أن يفقِد؟! قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ [الأنعام: ١٤]، وقد صحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من تعلَّق شيئًا وُكِل إليه".
فيا خيبةَ من تعلَّق بغير الله في كافة شؤونه!
وقد ضرب الله لنا مثلاً أيضًا بالبعوضة الصغيرة التي لا نأبَهُ لها ولا نُعيرُها اهتمامًا إلا في قتلها، تلكم البعوضة التي قال الله عنها: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا [البقرة: ٢٦]، ألا فسبحان الله هلاَّ سألنا أنفسَنا: لماذا يضربُ الله لنا مثلاً بالبعوضة؟! نعم، البعوضة التي لا يعرفُ من نزلت عليهم هذه الآية منها إلا صورتَها، فكيف بنا ونحن في زمنٍ كشفَ في البعوضة قلبَها ودماغَها وعيونَها وعروقَها، فهذه المخلوقةُ الصغيرة لا تُحقَر ولا تُزدَرى، فهي التي قيل في مثلها:
لا تحقِرنَّ صغيرًا في مُخاصمةٍ...إن البعوضةَ تُدمِي مُقلةَ الأسدِ
وإن العجبَ ليزداد - عباد الله - حينما يضربُ الله لنا مثلاً في الذُّباب، ذلكم المخلوق الذي يأنَفُ منه العموم تأفُّفًا وازدراءً، ويخُصُّه الله بالحضِّ على الإنصات والاستماع إليه بخلاف غيره من الأمثال، فيقول - سبحانه -: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج: ٧٣، ٧٤].
فيا لله العجَب؛ كيف يضربُ الله مثلاً بهذه المخلوق الصغير جدًّا، المُحتقَر لدى أهل الدنيا، ولو علِموا ما فيه من الأسرار لأدركوا عظمةَ الباري - جل شأنُه -، ولأيقَنوا أنهم لا يُحيطون به علمًا، فإنه - سبحانه - قد يجعل أسرارًا عظيمة في أضعف مخلوقاته.
فلله كم أدهشَ هذا المخلوق ألبابَ العلماء والأطباء والصيادلة وذوي المعامل والمُختبرات، ولله كم أقاموا فيه من التجارب، وتوصَّلوا إليه من الإعجاز ما يُذهِلُ الألباب ويُحدِقُ بالأبصار، ولا غروَ حينما يُسلِمُ بعضُهم عندما يرى عظمةَ الله في خلق الذُّباب، وكيف أن من أسراره قوة الإحساس في التخلُّص من الضرب بحيث يصعُب صيدُه لما خلقَ الله فيه من هذه الخاصية العجيبة، وكيف أنه في الوقت نفسه يحمِلُ داءً ودواءً بين جناحيه؛ حيث صحَّ بذلكم الخبر عن الصادق المصدوق في قوله: "إذا وقع الذُّباب في إناءِ أحدكم فليغمِسْهُ كلَّه ثم ليطرَحْه؛ فإن في أحد جناحَيْه الداء وفي الآخر شفاء".
فالله أكبر! ما أعظم مثل الباري - سبحانه -، والله أكبر! لا نُحصِي ثناءً عليه وتمجيدًا له وهو كما أثنى على نفسه.
وإذا كان هذا هو خلقَ الذُّباب؛ فكيف بخلق الناس، وإذا كان خلقُ الناس هو ما نعلمُه ونُشاهِدُه وما غابَ عنا كل أسراره؛ فكيف بخلق السماوات والأرض، فلا إله إلا الله، آمنَّا بما أنزل واتَّبَعنا الرسولَ، فاللهم اكتُبنا مع الشاهدين، ولقد صدق الله: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [غافر: ٥٧].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلتُ ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفَّارًا.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، واعلموا أن الله ضربَ الأمثالَ للاعتبار والعِظة، وقد قال الماوردي - رحمه الله -: "من أعظم علمِ القرآن علمُ أمثاله، والناس في غفلةٍ عنه لاشتغالهم بالأمثال وإغفالهم المُمثَّلات".
وذلك - عباد الله - لما في الأمثال من تبكيتٍ للخصم الشديد الخصومة، وقمعٍ لضراوة الجامح الآبِي؛ فإنه تُؤثِّر في القلوب ما لا يُؤثِّره وصفُ الشيء في نفسه.
ولو تأمَّلنا - عباد الله - ضربَ الله المثل في الذباب وما أتبعَه من قوله: مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الحج: ٧٤] لأدركنا سُحق الهوَّة بيننا وبين استحضار عظمة الله في جميع شؤوننا؛ فهل نُدرِك قولاً وعملاً ما خلقَنا الله لأجله؟ وهل نُدرِك حقًّا عظمةَ الله وقدرَه حقَّ قدره؟ وهل نستشعِرُ خضوعَ جميع المخلوقات له وحده - سبحانه - لا شريك له: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء: ٤٤]، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [مريم: ٩٣].
لقد أدركَت البهائمُ ما خُلِقت له؛ فهل نُدرِك نحن لماذا خُلِقنا؟!
صلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاةَ الصبح ثم أقبل على الناس، فقال: "بيْنا رجلٌ يسوقُ بقرةً إذ ركِبَها، فضربَها، فقالت: إنا لم نُخلَق لهذا، إنما خُلِقنا للحَرث، فقال الناس: سبحان الله! بقرةٌ تكلَّم"، فقال: "فإني أُؤمِنُ بهذا أنا وأبو بكرٍ وعمر .. الحديث"؛ رواه البخاري ومسلم، واللفظُ للبخاري.
فانظروا - يا رعاكم الله - كيف أدركَت هذه البقرة ما خُلِقت لأجله وهي حيوانٌ أعجم؛ فهل يُدرِكُ بنو آدم لماذا خُلِقوا، وهل قدَروا اللهَ حقَّ قدره؟! فمن أنطق هذه البقرة غيرُ الباري - جل شأنُه -؟! وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت: ٢١].
وإن تعجَبوا - عباد الله - فعجبٌ ما رواه الإمام أحمد في "مسنده" في قصة الأعرابي الذي جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيرويها أبو سعيد الخُدري يقول: عدَا الذئبُ على شاةٍ فأخذها، فطلبَه الراعي فانتزَعَها منه، فأقعَى الذئبُ على ذنَبِه قال: ألا تتقِي الله! تنزعُ مني رزقًا ساقَهُ الله إليَّ؟! فقال الأعرابي: يا عجبي! ذئبٌ مُقعٍ على ذنَبِه يُكلِّمني كلامَ الإنس، فقال الذئب: ألا أُخبرك بأعجب من ذلك؟ محمد - صلى الله عليه وسلم - بيثرب يُخبِرُ الناسَ بأنباء ما قد سبق. قال: فأقبل الراعي يسوقُ غنمَه حتى دخل المدينة، وأتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - .. الحديث.
سبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ذئبٌ يُخبِرُ بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ويدلُّ عليه وعلى دعوته؛ فماذا صنعنا - عباد الله -؟ ذئبٌ قدَرَ اللهَ حقَّ قدره؛ فأين نحن من هذا؟
لقد عُرِضت الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبَيْن أن يحمِلنها من باب قدرِ الله حقَّ قدره، فلم يحمِلها إلا هذا الإنسانُ الظَّلوم الجَهول، كل الخلائق قدَرَت الله حقَّ قدره إلا بني آدم.
لقد ذكر - سبحانه - أنه يسجُد له من في السماوات ومن في الأرض والشمسُ والقمرُ والنجومُ والجبالُ والشجرُ والدوابُّ، ولم يقل: والناس، وإنما قال: وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ [الحج: ١٨]، إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم: ٣٤].
ولقد صدق الله - ومن أصدق من الله قيلاً -: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر: ٦٧].
عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: جاء حبرٌ من الأحبار إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد! إنا نجِدُ أن الله يجعل السماوات على إصبَع، والماء والثَّرَى على إصبَع، وسائرَ الخلق على إصبَع، فيقول: أنا الملك، فضحِك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدَت نواجِذه - تصديقًا لقول الحبر -، ثم قرأ: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الزمر: ٦٧].
فمن أنت يا ابن آدم؟ ألم تُخلَق من ماءٍ مهين، ألست الفقير والله هو الغنيُّ الحميد، ألست الضعيفَ والله هو القويُّ العزيز؟ ولقد صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ يقول: "لو كانت الدنيا تعدِلُ عند الله جناحَ بعوضة ما سقَى كافرًا منها شربةَ ماء".
فما أهوننا على الله وهو القائل: مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ [لقمان: ٢٨]، نعم؛ ألا ما أهونَ الخلق على الله، قالها أبو الدرداء حين رأى دولة الأكاسِرة تهوِي على أقدام المسلمين فبكى، فقيل له: ما يُبكيك؟ فقال: ما أهونَ الخلق على الله إذا أضاعوا أمره، بينما هي أمةٌ قاهرةٌ ظاهرة تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى.
ألا فاتقوا الله - عباد الله -، واعلموا أن الله قد فرضَ عليكم صدقةَ الفطر على الذكر والأُنثى والحر والعبد والصغير والكبير، ولقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُؤدِّيها قبل خروجه لصلاة العيد، وكان الصحابة - رضي الله عنهم - يُؤدُّونها قبل العيد بيومٍ أو يومين.
فأخرِجوها - رحمكم الله - طيبةً بها نفوسكم، مُقتدين بنبيكم - صلى الله عليه وسلم -.
يا مَن يرى مدَّ البعوضِ جناحَها...في ظُلمةِ الليل البَهيم الألْيَلِ
ويرى نِياطَ عروقِها في نحرِها...والمُخَّ في تلك العِظامِ النُّحَّلِ
امنُن علينا بتوبةٍ تمحُو بها...ما كان منا في الزمانِ الأولِ
هذا؛ وصلُّوا - رحمكم الله - على خير البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسه، وأيَّه بكم - أيها المؤمنون -، فقال - جل وعلا -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: ٥٦].
اللهم صلِّ وسلِّم وزِد وبارِك على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشرك والمشركين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدَّينَ عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلِح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اجعل مواسمَ الخيرات لنا مربَحًا ومغنَمًا، وأوقات البركات والنفحَات لنا إلى رحمتك طريقًا وسُلَّمًا.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: ٢٠١].
سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.