خطبة المسجد الحرام - ٤ ذو الحجة ١٤٣٢ - صلاة الاستسقاء - الذنوب سبب منع المطر - الشيخ سعود الشريم
الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله الذي جعل الحمدَ مفتاحًا لذكره، وجعل الشكرَ سببًا للمزيد من فضله، ودليلاً على آلائه وعظَمَته، قضاؤه وحُكمه عدلٌ وحكمة، ورِضاه أمانٌ ورحمة، يقضي بعلمه، ويعفُو بحِلمه، خيرُه علينا نازِل، وتقصيرُنا إليه صاعِد، لا نقدِر أن نأخُذَ إلا ما أعطانا، ولا أن نتقِيَ إلا ما وقانا، نحمدُه على إعطائه ومنعه وبسطِه وقدرِه، البرِّ الرحيم لا يُضيرُه الإعطاءُ والجُود، ليس بما سُئِل بأجودَ منه بما لم يُسأل، مُسدِي النِّعَم وكاشِفِ النِّقَم، أصبحنا عبيدًا مملوكين له، له الحُجَّة علينا ولا حُجَّة لنا عليه، نستغفره ونتوبُ إليه مما أحاط به علمُه وأحصاه في كتابه، علمٌ غيرُ قاصِر وكتابٌ غيرُ مُغادِر.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله سيدُ البشر أجمعين ورسولُ ربِّ العالمين، فصلواتُ الله وسلامه عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله - معاشر المسلمين -؛ فإنها الزادُ في المعاد، والحبلُ المتين بين الرحيم والعِباد، يدفعُهم إلى تقديم مرضات ربِّهم على إرضاء خلقِه وعبيدِه، ويحمِلُهم إيمانٌ صادقٌ بكفاية الله لعباده المؤمنين الصادقين، فلا يُرضُون الناسَ بسخط الله، ولا يُجامِلونهم في معصية الله.
قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "إن الرجل ليخرُج من بيته ومعه دينُه، فيلقَى الرجلَ وله إليه حاجة، فيقول له: أنت كيتَ وكيتَ - يُثني عليه - لعله يقضي من حاجته شيئًا، فيُسخِط اللهَ عليه، فيرجعُ وما معه من دينه شيءٌ".
نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله، اللهم إنا نستغفرُك إنك كنتَ غفَّارًا، فأرسِل السماءَ علينا مِدرارًا.
عباد الله:
إن ما نُعانيه اليوم من قحطٍ وتأخُّرٍ للمطر عن إبَّان زمانه لهُو حصادُ خللٍ في علاقتنا مع خالقنا، ثم علاقتنا مع الناس.
ولقد كان السلفُ - رحمهم الله - يرون آثار معصيتهم لله في أزواجهم وأولادهم ودوابِّهم، وإن المعاصي قد انتشرت بين الناس انتشار النار في الهَشيم؛ فلقد ضعُف الخوفُ من الله، وكثُر الرُّكون إلى غيره، حتى لقد أصبح الواحدُ من الناس يبذُلُ مُهجتَه للناس في قضاء حاجته أكثر مما يبذُلُها لخالقه - سبحانه -.
يسألُ الشَّحِيح وينسَى الكريمَ - سبحانه -، يستلطِفُ الدنِيءَ وينسى اللطيفَ - سبحانه -، ويسترحِمُ الغضَّ الغليظَ وينسى الحليم الرحيمَ - سبحانه -، أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الملك: ٢٢]، يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ [النساء: ١٠٨].
نستغفر الله، نستغفر الله، اللهم إنا نستغفرُك إنك كنتَ غفَّارًا، فأرسِل السماءَ علينا مِدرارًا.
لقد كثُر بين العباد: التحاسُد والتدابُر والتنازُع وعظُمَت بينهم الفُرقة، واتَّسعَت في ساحتهم النُّفرة، واستفحلَت الوَحشة بين العبد وخالقه إلا من رحِمَ الله.
لقد كثُرت معاصينا لله في الرخاء، فصِرنا لا نلجأُ إليه إلا في الشدَّة والضرَّاء، قصَّرنا في جنب الله، وفرَّطنا في طاعته، حتى كثُر الخلَلُ في أداء العبادات، وغابَ الصدقُ والأمانة والتسامُح في المُعاملات، فكثُر الغِشُّ، وتفنَّنَ الناسُ في الحِيَل، فاقشعرَّت الأرض، وقلَّت البركات، وتكدَّرَت الحياة، فكثُر الذين يأكلون ولا يشبَعون، ويكتسِبون ولا يجمعون، ويجمَعون ولا يُبارَك لهم.
وهذا داءٌ عُضال، وبلاءٌ نازلٌ لا يرفعُه إلا الاستقامةُ والإيمان والتقوى؛ لأن الله قال عن الاستقامة: وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا [الجن: ١٦]- وذلك على أحد التفسيرين -.
وقال عن الإيمان والتقوى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [الأعراف: ٩٦].
نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله، اللهم إنا نستغفرُك إنك كنتَ غفَّارًا، فأرسِل السماءَ علينا مِدرارًا.
عباد الله:
ليس العيب كل العيب في أن يعصِي العبدُ؛ لأن الكمالَ لله وحده، والعصمةَ لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، ومن ذا الذي لا يعصِي ربَّه أبدًا، ولا يقعُ في الخطأ طرفَة عينٍ؟! كيف والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «والذي نفسي بيده؛ لو لم تُذنِبوا لذهبَ الله بكم ولجاء بقومٍ يُذنِبون فيستغفِرون الله فيغفِرَ لهم»؛ رواه مسلم.
ولكن العيب كل العيب فيمن يُخطِئُ ويعصِي ويُصِرُّ على الخطأ والمعصية ثم هو لا يستغفر الله ولا يتوبُ إليه، والله - جل وعلا - يقول: أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة: ٧٤].
عباد الله:
الابتلاءُ سنةٌ ربَّانية لا يسلَمُ منها بنو آدم ولا يكادُون، ولقد قال - سبحانه -: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء: ٣٥]، وإن الابتلاء ليتنوَّعُ في شؤون العباد ومعاشِهم؛ فتارةً في النفس، وتارةً في المال، وتارةً في القحط وشُحِّ الأمطار.
وإن من حكمةِ الله تعالى في منع المطر عن إبَّانه: أن يستيقظَ الناسُ عن غفلتهم، ويُحاسِبوا أنفسَهم، ويُجدِّدوا العهدَ مع خالقِهم، فيُنيبُوا إلى الله ويُسلِموا له، ويفعلوا الخيرَ لعلهم يُفلِحون، وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ [الشورى: ٢٧].
وإن الله - جل وعلا - لطيفٌ بعباده يحبُّ التوابين ويحبُّ المُتطهِّرين، وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ [الشورى: ٢٨].
نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله، اللهم إنا نستغفرُك إنك كنتَ غفَّارًا، فأرسِل السماءَ علينا مِدرارًا.
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين.
أما بعد، عباد الله:
فإنكم قد خرجتُم من بيوتكم تشكُون جدبَ دياركم واستئخارَ المطر عن إبَّان زمانه عنكم، وإن الله وعدَ الداعين بالإجابة؛ فقال - سبحانه -: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة: ١٨٦]، وقال - سبحانه -: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: ٦٠]، وقال - سبحانه -: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ [النمل: ٦٢].
فاللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنزِل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أنزِل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
اللهم لا تُهلِكنا بالسنين، وارحَمنا يا أرحمَ الراحمين، اللهم لا تحرِمنا خيرَ ما عندك بشرِّ ما عندنا.
اللهم إنا خلقٌ من خلقك، فلا تمنَع عنا بذنوبنا فضلَك.
اللهم اسقِنا غيثًا مُغيثًا مرئيًا غَدقًا مُجلِّلاً سحًّا طبقًا نافعًا غير ضارٍّ عاجلاً غير آجِل.
اللهم اسقِ عبادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحيِي بلدك الميت.
اللهم إن بالبلاد من القَحط ما لا نشكُوه إلا لك، اللهم أنبِت لنا الزرعَ، وأدِرَّ لنا الضرعَ، وأسقِنا من بركات السماء، اللهم لتُحيِيَ ب البلاد، وتُسقِيَ به العباد، ولتجعلَه بلاغًا للحاضر والباد، واجعل ما أنزلتَه علينا متاعًا لنا وبلاغًا إلى حين.
آمين، آمين، آمين.
واعلموا - رحمكم الله - أن من سنة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - في هذا الموضع قلبَ الرداء تفاءلاً بتغيُّر الحال.
نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفَّارًا، فأرسِل السماء علينا مِدرارًا.
سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين.