للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

فليس بمؤمن من لم ينطو قلبه على الإيمان، وتصريحه بلسانه غيرَ ما يعتقد لا يغير في حقيقة قائله ولا حكمه في أحكام الآخرة.

وكذلك لا قيمة في أحكام الدنيا للمكره على الإسلام، فلا تلزمه أحكامه في الدنيا،

قال الإمام محمد بن الحسن الشيباني تلميذ الإمام أبي حنيفة: "لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من خلفائه؛ أنه أجبر أحداً من أهل الذمة على الإسلام ... وإذا أُكره على الإسلام من لا يجوز إكراهه كالذمي والمستأمن فأسلم؛ لم يثبت له حكم الإسلام حتى يوجد منه ما يدل على إسلامه طوعاً؛ مثل أن يثبت على الإسلام بعد زوال الإكراه عنه، وإن مات قبل ذلك فحكمه حكم الكفار، وإن رجع إلى دين الكفر لم يجز قتله ولا إكراهه على الإسلام .. ولنا أنه أُكره على ما لا يجوز إكراهه عليه، فلم يثبت حكمه في حقه، كالمسلم إذا أكره على الكفر، والدليل على تحريم الإكراه قول الله تعالى: {لا إكراه في الدين} (البقرة: ٢٥٦) " (١).

وبمثله قال الفقيه الحنبلي ابن قدامة: "وإذا أكره على الإسلام من لا يجوز إكراهه كالذمي والمستأمن فأسلم؛ لم يثبت له حكم الإسلام حتى يوجد منه ما يدل على إسلامه طوعاً" (٢).

وهذا ما حصل بالفعل زمن الحاكم بأمر الله الذي يصفه الدكتور ترتون بالخبل والجنون، وقد كان من خبله أن أكره كثيرين من أهل الذمة على الإسلام، فسمح لهم الخليفة الظاهر بالعودة إلى دينهم، فارتد منهم كثير سنة ٤١٨هـ (٣).

ولما أُجبر على التظاهر بالإسلام موسى بن ميمون فر إلى مصر، وعاد إلى دينه، ولم يعتبره القاضي عبد الرحمن البيساني مرتداً، بل قال: "رجل يكرَه على الإسلام، لا يصح إسلامه شرعاً"، وعلق عليها ترتون بقوله: "وهذه عبارة تنطوي على التسامح الجميل" (٤).

وقد امتثل سلفنا هدي الله عز وجل، فلم يلزموا أحداً بالإسلام إكراهاً، ومن ذلك أن عمر بن الخطاب قال لعجوز نصرانية: أسلمي تسلمي، إن الله بعث محمداً بالحق. فلم تقبل العجوز نصحه، وقالت: أنا عجوز كبيرة، والموت أقرب إليّ! فقال عمر: اللهم اشهد، وتلا: {لا إكراه في الدين} (البقرة: ٢٥٦) (٥).

ومثله صنع مع مملوكه أسبق، فقد روى ابن أبي حاتم بإسناده عن أسبق قال كنت في دينهم مملوكاً نصرانياً لعمر بن الخطاب، فكان يعرض علي الإسلام، فآبى، فيقول: {لا إكراه في الدين} ويقول: (يا أسبق، لو أسلمتَ لاستعنّا بك على بعض أمور المسلمين) (٦).

وفي الأثرين الأخيرين المنقولين عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ما يدل على إحكام الآية، ورد على من زعم أن آية {لا إكراه في الدين} نزلت في وقت ضعف


(١) السير الكبير (١٠/ ١٠٣).
(٢) المغني (٩/ ٢٩)، وانظر كشاف القناع للبهوتي (٦/ ١٨٠).
(٣) أهل الذمة في الإسلام، د. أس ترتون، ص (٢١٤).
(٤) المصدر السابق، ص (٢١٤).
(٥) المحلى (١١/ ١٩٦).
(٦) الطبقات الكبرى (٦/ ١٥٨)، تفسير القرآن العظيم (١/ ٣١٢).

<<  <   >  >>