للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

المسلمين (١)، وأنها منسوخة، إذ النسخ يتضمن رفع حكم شرعي ثبت بدليل شرعي، فلا يصح هذا الرفع والنسخ إلا بدليل معتبر شرعاً، وكما يقول الشاطبي: "إن الأحكام إذا ثبتت على المكلف، فادعاء النسخ فيها لا يكون إلا بأمر محقق، لأن ثبوتها على المكلف أولاً محقق، فرفعها بعد العلم بثبوتها لا يكون إلا بمعلوم محقق .. فلا ينبغي قبول تلك الدعوى فيه إلا مع قاطع بالنسخ، بحيث لا يمكن الجمع بين الدليلين، ولا دعوى الإحكام فيهما. وهكذا يقال في سائر الأحكام، مكية كانت أو مدنية" (٢).

ونقل السيوطي عن ابن الحصار الأنصاري قوله: "إنما يرجع في النسخ إلى نقل صريح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو عن صحابي يقول: آية كذا نسخت آية كذا" .. ولا يعتمد في النسخ قول عوامّ المفسرين، بل ولا اجتهاد المجتهدين من غير نقل صحيح، ولا معارضة بيّنة" (٣).

[شهادات التاريخ في كيفية انتشار الإسلام]

لقد فقه المسلمون مبدأ عدم الإكراه على الدين ووعوه، فتركوا لرعاياهم من غير المسلمين حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر التعبدية، ولم يأمروا أحداً باعتناق الإسلام قسراً وكرهاً، ولن ننقل في هذا شهادات المسلمين؛ إذ لن تقنع الذين مازالوا يهرفون بما لا يعرفون، ويصرون على أن انتشار الإسلام في الأرض في غمضة من الزمان كان بسيف القوة؛ لا الحجة والبرهان، فلهؤلاء نسوق بعض أقوال المؤرخين المنصفين من غير المسلمين:

يقول المؤرخ الإنجليزي توماس آرنولد في كتابه "الدعوة إلى الإسلام": "لم نسمع عن أية محاولة مدبرة لإرغام غير المسلمين على قبول الإسلام أو عن أي اضطهاد منظم قصد منه استئصال الدين المسيحي، ولو اختار الخلفاء تنفيذ إِحدى الخطتين لاكتسحوا المسيحية بتلك السهولة التي أقصى بها فرديناند وإِيزابلا دين الإِسلام من أسبانيا" (٤).

ويقول: "نستطيع أن نحكم بحق أن القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام قد اعتنقته عن اختيار وإرادة حرة، وإن العرب المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا هذا بين جماعات المسلمين لشاهد على هذا التسامح" (٥).

وينقل شهادة مهمة للبطريك النسطوري يشوع ياف الثالث (عيشو يابه) في رسالته إلى سمعان مطران ريفارشير ورئيس أساقفة فارس ينوح فيها على دخول شعب خراسان في الإسلام، ويقول: «أين أبناءك؛ أيها الأب الذي ثكل أبناءه؟ أين أهل مرو


(١) وقد أشار إلى مثله البابا بندكتوس السادس عشر في خطابه الشهير في جامعة رغنسبورغ حين قال: "ووفقاً للخبراء، فإن هذه السورة قد نزلت في مرحلة مبكرة، عندما كان محمد ما زال بلا حول ومهدداً"، وقد جهل البابا أو ادعى الجهل بعلمه بتأخر نزول سورة البقرة إلى زمن قيام دولة الإسلام في المدينة المنورة، وأن سبب نزول هذه الآية هو رغبة بعض المسلمين من أهل المدينة في إجبار أبنائهم المتهودين على الدخول في الإسلام.
(٢) الموافقات (٣/ ١٠٥ - ١٠٦).
(٣) الإتقان في علوم القرآن (٢/ ٦٦).
(٤) الدعوة إلى الإسلام، توماس أرنولد، ص (٧٦).
(٥) المصدر السابق، ص (٥٤).

<<  <   >  >>