للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} (التوبة: ٢٩)، فالجزية تؤخذ من المقاتلين ومن في حكمهم - كما تقدم -، عن قهر لهم وغلبة للمسلمين عليهم، إذ ليس من شأن المقاتل أن يدفع جزية عن عزة وغلبة.

وقد فسر بعض العلماء قوله: {عن يدٍ} "أي عن طيب نفس , وكل من أطاع لقاهرٍ وأعطاه عن طيب نفس من يد فقد أعطاه عن يد. وقيل معنى قوله: {عن يد} أي نعمة منكم عليهم , وقيل: يعطيها من يده ولا يبعث بها" (١).

وأما الأمر بالصغار الوارد في قوله: {وهم صاغرون}، فهو معنى واضح في سياقه الذي ذكرنا، فالمقاتل لن يدفع الجزية في حال العز والغلبة.

ولا يمكن أن يتنافى معنى الآية مع ما رأيناه في أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوب البر والعدل، وحرمة الظلم والعنت، وهو ما فهمه علماء الإسلام، ففسر الشافعي الصغار بأن تجري عليهم أحكام الإسلام، أي العامة منها، فالجزية علامة على خضوع الأمة المغلوبة للخصائص العامة للأمة الغالبة.

وفسره التابعي عكرمة مولى ابن عباس بصورة دفع الجزية للمسلمين، فقال: "أن يكونوا قياماً، والآخذ لها جلوساً"؛ إذ لما كانت اليد المعطية على العادة هي العالية، طلب منهم أن يشعروا العاطي للجزية بتفضلهم عليه، لا بفضله عليهم، يقول القرطبي في تفسيره: "فجعل يد المعطي في الصدقة عليا، وجعل يد المعطي في الجزية سفلى، ويد الآخذ عليا" (٢).

وقال ابن القيم: "لما كانت يد المعطي العليا، ويد الآخذ السفلة؛ احترز الأئمة أن يكون الأمر كذلك في الجزية، وأخذوها على وجه تكون يد المعطي السفلى، ويد الآخذ العليا" (٣).

وأما ما نقل عن بعض الفقهاء من صور مستقبحة في معنى الصغار فهي مما استقبحه العلماء وأنكروه، ومنه ما نقله تقي الدين الحصني الشافعي عن بعضهم بقولهم: "وتؤخذ على وجه الصغار والإهانة؛ بأن يكون الذمي قائماً، والمسلم جالساً، ويأمره أن يخرج يده من جيبه، ويحني ظهره، ويطأطئ رأسه، ويصب ما معه في كفة الميزان، ويأخذ المستوفي بلحيته، ويضرب في لهزمته، وفي مجمع اللحم بين الماضغ والأذن".

وتعقبها النووي بقوله: "هذه الهيئة باطلة، ولا نعلم لها أصلاً معتمداً، وإنما ذكرها بعضهم .. فالصواب الجزم ببطلانها، وردها على من اخترعها، ولم ينقل أنه عليه الصلاة والسلام ولا أحد من الخلفاء الراشدين فعل شيئاً منها" (٤).

ولما نقل ابن القيم صوراً شبيهة ذكرها الفقهاء عقّب بقوله: "وهذا كله مما لا دليل عليه ولا هو مقتضى الآية، ولا نقل عن رسول الله ولا عن الصحابة أنهم فعلوا ذلك،


(١) فتح الباري (٦/ ٢٥٩).
(٢) الجامع لأحكام القرآن (٨/ ١١٥)، وتفسير الماوردي (٢/ ٣٥١ - ٣٥٢).
(٣) أحكام أهل الذمة (١/ ١٢١).
(٤) كفاية الأخيار (١/ ٦٦٩).

<<  <   >  >>