الوجه السادس: أن يقال: لا نسلم انحصار القسمة فيما ذكر من الأقسام الأربعة إذ من الممكن أن يقال: يقدم العقلي تارة والسمعي أخرى فأيهما كان قطعياً قدم وإن كانا جميعاً قطعيين فيمتنع التعارض وإن كانا ظنيين فالراجح هو المقدم. فدعوى المدعي أنه لابد من تقديم العقلي مطلقاً أو السمعي مطلقاً أو الجمع بين النقيضين أو رفع النقيضين دعوى باطلة بل هنا قسم ليس من هذه الأقسام كما ذكرناه بل هو الحق الذي لا ريب فيه.
الوجه السابع: قولهم: إن قدمنا النقل كان ذلك طعناً في أصله الذي هو العقل فيكون طعناً فيه. غير مسلم وذلك لأن قولهم: إن العقل أصل للنقل إما أن يُراد به أنه أصل في ثبوته في نفس الأمر أو أصل في علمنا بصحته. والأول لا يقوله عاقل فإن ما هو ثابت في نفس الأمر بالسمع أو غيره هو ثابت سواء علمنا بالعقل أو بغير العقل ثبوته أو لم نعلم ثبوته لا بعقل ولا بغيره، إذ عدم العلم ليس علماً بالعدم وعدم علمنا بالحقائق لا ينفي ثبوتها في أنفسها.
فما أخبر به الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - هو ثابت في نفس الأمر، سواء علمنا صدقه أو لم نعلمه. ومن أرسله الله تعالى إلى الناس فهو رسوله، سواء علم الناس أنه رسول أو لم يعلموا، وما أخبر به فهو حق، وإن لم يصدقه الناس، وما أمر به عن الله فالله أمر به وإن لم يطعه الناس، فثبوت الرسالة في نفسها وثبوت صدق الرسول، وثبوت ما أخبر به في نفس الأمر: ليس موقوفاً على وجودنا، فضلاً عن أن يكون موقوفاً على عقولنا، أو على الأدلة التي نعلمها بعقولنا، وهذا كما أن وجود الرب تعالى وما يستحقه من الأسماء والصفات ثابت في نفس الأمر، سواء علمناه أو لم نعلمه.
فتبين بذلك أن العقل ليس أصلاً لثبوت الشرع في نفسه، ولا معطياً له صفة لم تكن له، ولا مفيداً له صفة كمال، إذ العلم مطابق للمعلوم المستغني عن العلم، تابع له، ليس مؤثراً فيه.