ولهذا آل الأمر بمن سلك هذا الطريق إلى أنهم لا يستفيدون من جهة الرسول شيئاً من الأمور الخبرية المتعلقة بصفات الله تعالى وأفعاله، بل وباليوم الآخر عند بعضهم، لاعتقادهم أن هذه فيها ما يُردّ بتكذيب أو تأويل وما لا يرد، وليس لهم قانون يرجعون إليه في هذا الأمر من جهة الرسالة، بل هذا يقول: ما أثبته عقلك فأثبته، وإلا فلا، وهذا يقول: ما أثبته كشفك فأثبته، وإلا فلا، فصار وجود الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندهم كعدمه في المطالب الإلهية وعلم الربوبية، بل وجوده – على قولهم – أضر من عدمه، لأنهم لم يستفيدوا من جهته شيئاً، واحتاجوا إلى أن يدفعوا ما جاء به: إما بتكذيب، وإما بتفويض، وإما بتأويل.
الوجه التاسع: أنه إذا علم صحة السمع وأن ما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو حق فإما أن يعلم أنه أخبر بمحل النزاع أو يظن أنه أخبر به أو لا يعلم ولا يظن، فإن علم أنه أخبر به امتنع أن يكون في العقل ما ينافي المعلوم بسمع أو غيره فإن ما علم ثبوته أو انتفاؤه لا يجوز أن يقوم دليل يناقض ذلك. وإن كان مظنوناً أمكن أن يكون في العقل علم ينفيه وحينئذٍ فيجب تقديم العلم على الظن لا لكونه معقولاً أو مسموعاً بل لكونه علماً، كما يجب تقديم ما علم بالسمع على ما ظن بالعقل وإن كان الذي عارضه من العقل ظنياً. فإن تكافئا وقف الأمر، وإلا قدّم الراجح، وإن لم يكن في السمع علم ولا ظن فلا معارضة حينئذٍ، فتبين أن الجزم بتقديم العقل مطلقاً خطأ وضلال.
الوجه العاشر: أن يقال: إذا تعارض الشرع والعقل وجب تقديم الشرع؛ لأن العقل مصدق للشرع في كل ما أخبر به، والشرع لم يصدق العقل في كل ما أُخبر به، ولا العلم بصدقه موقوف على كل ما يخبر به العقل.