للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ج: ص:  >  >>

معارضة العقل لما دل العقل على أنه حق دليل على تناقض دلالته، وذلك يوجب فسادها، وأما السمع فلم يعلم فساد دلالته ولا تعارضها في نفسها، وإن لم يعلم صحتها. وإذا تعارض دليلان أحدهما علمنا فساده والآخر لم نعلم فساده كان تقديم ما لم يعلم فساده، أقرب إلى الصواب من تقديم ما يعلم فساده كالشاهد الذي علم أنه يصدق ويكذب، والشاهد المجهول الذي لم يعلم كذبه، فإن تقديم قول الفاسق المعلوم كذبه على قول المجهول الذي لم يعلم كذبه لا يجوز، فكيف إذا كان الشاهد هو الذي شهد بأنه قد كذب في بعض شهاداته؟!

والعقل إذا صدق السمع في كل ما يخبر به ثم قال: إنه أخبر بخلاف الحق، كان هو قد شهد للسمع بأنه يجب قبوله، وشهد له بأنه لا يجب قبوله، وشهد بأن الأدلة السمعية حق، وأن ما أخبر به السمع فهو حق، وشهد بأن ما أخبر به السمع فليس بحق، فكان مثله مثل من شهد لرجلٍ بأنه صادق لا يكذب، وشهد له بأنه قد كذب، فكان هذا قدحاً في شهادته مطلقاً وتزكيته، فلا يجب قبول شهادته الأولى ولا الثانية، فلا يصلح أن يكون معارضاً للسمع بحال.

ولهذا تجد هؤلاء الذي تتعارض عندهم دلالة العقل والسمع في حيرةٍ وشك واضطراب، إذ ليس عندهم معقول صريح سالم عن معارض مقاوم، كما أنهم أيضاً في نفس المعقول الذي يعارضون به السمع في اختلاف وريب واضطراب وذلك كله مما يبين أنه ليس في المعقول الصريح ما يمكن أن يكون مقدماً على ما جاءت به الرسل، وذلك لأن الآيات والبراهين دالة على صدق الرسل، وأنهم لا يقولون على الله إلا الحق، وأنهم معصومون فيما يبلغونه عن الله من الخبر والطلب، لا يجوز أن يستقر في خبرهم عن الله شيء من الخطأ، كما اتفق على ذلك جميع المقرين بالرسل من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم.

<<  <  ج: ص:  >  >>