للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ج: ص:  >  >>

الوجه السادس والخمسون: أن هؤلاء عكسوا شرعة الله وحكمته، وضادوه في أمره، فإن الله سبحانه جعل الوحي إماماً والعقل مؤتماً به، وجعله حاكماً والعقل محكوماً عليه، ورسولاً والعقل مرسلاً إليه، وميزاناً والعقل موزوناً به، وقائداً والعقل منقاداً له، فصاحب الوحي مبعوث وصاحب العقل مبعوث إليه، والآتي بالشرع مخصوص بوحي من الله وصاحب العقل مخصوص ببحث عن رأي وفكرة، وصاحب الوحي مُلقى وصاحب العقل كادح طالب، هذا يقول أمرت ونهيت وأوحي إليّ، وقيل لي وما أقول شيئاً من تلقاء نفسي ولا من قبل عقلي ولا من جهة فكري ونظري، وذاك المتخلف يقول نظرت ورأيت وفكرت وقدرت واستحسنت واستنتجت، والمتخلف يقول معي آلة المنطق والكليات الخمس والمقولات العشر والمختلطات والموجهات اهتدى بها، والرسول يقول: معي كتاب الله وكلامه ووحيه، والمتخلف يقول معي العقل، والرسول يقول: معي نور خالق العقل به أهدى وأهتدي، والرسول يقول: قال الله كذا، قال جبريل عن الله كذا، والمتخلف يقول: قال أفلاطون قال بقراط، قال أرسطو كذا، قال ابن سينا، قال الفارابي: فيسمع من الرسول ظاهر التنزيل وصحيح التأويل وشرع سنة، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وخبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، وخبر عن السماء والملائكة واليوم الآخر. ويسمع من الآخر الهيولي والصورة والطبيعة والاستقص والذاتي والعرض والجنس والنوع والفصل والخاصة والأيس والليس، وعكس النقيض والعكس المستوي، وما شاكل هذا (١) مما لا يسمع من مسلم ولا يهودي ولا نصراني ولا مجوسي، إلا من رضي لنفسه بما يرضى به هؤلاء المتخلفون لأنفسهم ورغب فيما رغبوا فيه، وبالجملة فهما طريقان متباينان، فمن أراد أن يتمعقل بعقول هؤلاء، فليعزل نظره عن الوحي ويخلي بينه وبين أهله، ومن أحب أن يكون من أهل العقل والوحي فليعتصم بالوحي ويستمسك بغرز من جاء به، ويسلم إليه أعظم من تسليم


(١) انظر لتعريف هذه الألفاظ: الصواعق المرسلة (٣/٨٩٢) .

<<  <  ج: ص:  >  >>