فليتدبر المؤمن هذا الكلام وليرد أوله على آخره وآخره على أوله، ليتبين له ما ذكرنا عنهم من العزل التام للقرآن والسنة عن أن يستفاد منهما علم أو يقين في باب معرفة الله، وما يجب له، وما يمتنع عليه، وأنه لا يجوز أن يحتج بكلام الله ورسوله في شيء من هذه المسائل وأن الله تعالى يجوز عليه التلبيس والتدليس على الخلق وتوريطهم في طرق الضلال وتعريضهم لاعتقاد الباطل والمحال، وأن العباد مقصرون غاية التقصير إذا حملوا كلام الله ورسوله على حقيقته، وقطعوا بمضمون ما أخبر به حيث لم يشكوا في ذلك، إذ قد يكون في العقل ما يعارضه ويناقضه، فإن غاية ما يمكن أن يحج بكلام الله ورسوله عليه من الجزئيات ما كان مثل الإخبار بأن على قلة جبل قاف غراباً صنعته كيت وكيت، أو على مسألة الإجماع وخبر الواحد، وأن مقدمات أدلة القرآن والسنة غير معلومة ولا متيقنة الصحة، ومقدمات أدلة أرسطو صاحب المنطق والفارابي وابن سينا وإخوانهم قطعية معلومة الصحة، وأنه لا طريق لنا إلى العلم بصحة الأدلة السمعية في باب الإيمان بالله وأسمائه وصفاته البتة لتوقفها على انتفاء ما لا طريق لنا إلى العلم بانتفائه وأن الاستدلال بكلام الله ورسوله في ذلك فَضْلة لا يحتاج إليها، بل هو مستغنىً عنه إذا كان موافقاً للعقل.
فتأمل هذا البنيان الذي بنوه، والأصل الذي أصلوه، هل في قواعد الإلحاد أعظم هدماً منه لقواعد الدين، وأشد مناقضة منه لوحي رب العالمين؟! وبطلان هذا الأصل معلوم بالاضطرار من دين جميع الرسل وعند جميع أهل الملل.
الوجه الثاني والسبعون: أن الدين تصديق الرسول فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، وكل منهما نوعان: مطلق ومقيد.