للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ج: ص:  >  >>

كانت العقلانية الإغريقية لوناً من عبادة العقل وتأليهه، وإعطائه حجماً مزيفاً أكبر بكثير من حقيقته، كما كانت في الوقت نفسه لوناً من تحويل الوجود كله إلى ((قضايا)) تجريدية مهما يكن من صفائها وتبلورها فهي بلا شك شيء مختلف عن الوجود ذاته، بحركته الموارة الدائمة، بمقدار ما يختلف ((القانون)) الذي يفسر الحركة عن الحركة ذاتها، وبمقدار ما تختلف البلورة عن السائل الذي نتجت عنه.. قضايا تعالج معالجة كاملة في الذهن بصرف النظر عن وجودها الواقعي! وبصرف النظر عن كون وجودها الواقعي يقبل ذلك التفسير العقلاني في الواقع أو لا يقبله، ويتمشى معه أو يخالفه!.

وكان أشد ما يبدو فيه هذا الانحراف معالجة تلك الفلسفة ((لقضية)) الألوهية و ((قضية)) الكون المادي وما بينهما من علاقة. ويتشعب هذا الانحراف شعباً كثيرة في وقت واحد.

فأول انحراف هو محاولة إقحام العقل فيما ليس من شأنه أن يلم به فضلاً عن أن يحيط بكنهه في قضية الذات الإلهية.

والانحراف الثاني هو تحويل الموضوع كله إلى قضايا فلسفية ذهنية بحتة، تبدأ في العقل وتنتهي في العقل، ويثبت ما يثبت منها وينفى ما ينفى بالعقل، فلا تمس الوجدان البشري، ولا تؤثر في سلوك الإنسان العملي، فتفقد قيمتها ... وأما الانحراف الثالث الناشئ من التناول العقلاني لقضية الألوهية، وعدم الرجوع فيها إلى المصدر اليقيني الأوحد وهو الوحي الرباني، فهو تخبط الفلاسفة فيما بينهم وتعارض ما يقوله كل واحد منهم مع ما يقوله الآخر.

<<  <  ج: ص:  >  >>