أولاً: أخذهم من تراث الأولين من فلاسفة اليونان ممّن لم ينعموا بمصاحبة وحي إلهي يقود مسيرتهم فصاروا يقضون في شؤونهم كلها بهذا العقل الذي زادوا من سلطانه وانفراده فكانت مصنفات أولئك الفلاسفة تضم المقاييس العقلية في شكل منطق يتحاكم إليه في القضايا العقلية. فتابعهم في ذلك المتكلمون والمعتزلة من أهل الإسلام وأعجبوا بصنيعهم ذلك. وكل هذا بفضل جهود الترجمة التي قام بها بعض الخلفاء فأوقعوا الأمة في هذه المصائب المتتالية من حيث ظنوا أنهم يحسنون صنعاً بها. ويشهد لذلك: أن المعتزلة لم يعلُ صيتهم وتظهر عقلانيتهم واضحة إلا في عهد الخليفة المأمون الذي مهّد السبيل للاقتباس من كتب اليونان وأعانهم عليها (١) . حتى أحدثت الفلسفة – كما يقول زهدي حسين – ((في حياتهم انقلاباً خطيراً وفي تفكيرهم ثورة عنيفة لأنهم بعد أن وقفوا على مواضيعها وتعمقوا فيها أحبوها لذاتها وتعلقوا بها فنتج عن ذلك أمران:
أنهم صاروا يعظمون الفلاسفة اليونان وينظرون إليهم نظرة أسمى وأقدس من نظرتنا إليهم اليوم ويضعونهم في مرتبة تقرب من عتبة النبوة. ثم آمنوا بأقوالهم واعتبروها كما يقول أوليري مكملة لتعاليم دينهم. وانهمكوا لذلك في إظهار الاتفاق الجوهري بينها فبدأ عمل المعتزلة الآخر المهم ألا وهو التوفيق بين الدين الإسلامي وبين الفلسفة اليونانية.. ذلك العمل الذي تركوه لمن خلفهم من الفلاسفة المسلمين كابن رشد والفارابي والكندي الذين قاموا بنصيبهم فيه وكانوا لا يقلون عنهم عناية به وتحمساً له.
(١) نقل السيوطي عن شيخ الإسلام أنه ((كان يقول: ما أظن الله يغفل عن المأمون ولابد أن يقابله على ما اعتمده مع هذه الأمة من إدخاله هذه العلوم الفلسفية بين أهلها أو كما قال)) (صون المنطق ٩) .