للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وهؤلاء القبقول قد جاء فيهم أمر سلطاني وخط شريف بإبطالهم من الشام، وأن من استخدمهم أو ردّهم ملعون بن ملعون. فالحاكم وقتئذ تيقّن أن البلد لا تصلح إلا بهم، فأقرهم وأبقاهم. وبعدها صارت تقول القبقول: إن قتلة الشريف قيمتها أخشاية فضة. والحكم لله والغيرة لله ولرسوله.

وفي ثاني يوم الجمعة عمل أسعد باشا ديواناً، وجمع فيه علماء الشام وأعيانها، وقال لهم: أنا الليلة مسافر على الدورة، فتسلموا البلد ولا تتركوا أحداً يتعدى على أحد. فقالوا: يا أفندينا نحن أناس منا علماء ومنا فقراء ومنا مدرسون، وصنعتنا مطالعة الكتب وقراءتها. فقال لهم: هذا إقراركم، وكيف وأنتم الأعيان، فقالوا: حاشا لله إنما أعيان الشام القبقول. فقال لهم: هذا إقراركم، وقد تحققتم بأن أعيانها والمحافظون لها القبقول. فعند ذلك أرسل خلف رؤساء القبقول وسلّم البلد لهم. وكان ذلك منه دهاء. ثم سافر وترك الناس تتقلب في فرش القهر والكدر.

وقد كان رجل من الأشراف من جملة من كان أيام فتنتهم قد فتح دكانه بعد أن هدأت الأمور، فبينما هو يفتح دكانه إذ قبضت عليه جماعة من القبقول ورفعوه إلى القلعة، بعد أن شدوا وثاقه وثقلوه بالقيود، حتى كأنه من اليهود أو من قوم عاد وثمود، ثم فتشوا على غيره ليقرنوه، فهربت غالب الأشراف. فانظروا يا مسلمين إلى هذا الإنصاف، وقولوا: يا خفيّ الألطاف نجنا مما نخاف.

وفي تلك الأيام ازداد الفساد وظلمت العباد وكثرت بنات الهوى في الأسواق في الليل والنهار. ومما اتفق في حكم أسعد باشا في هذه الأيام أن واحدة من بنات الهوى عشقت غلاماً من الأتراك. فمرض، فنذرت على نفسها إن عوفي من مرضه لتقرأن له مولداً عند الشيخ أرسلان. وبعد أيام عوفي من مرضه، فجمعت شلكات البلد وهن المومسات، ومشين في أسواق الشام، وهن حاملات الشموع والقناديل والمباخر، وهن يغنين ويصفقن بالكفوف ويدققن بالدفوف، والناس وقوف صفوف تتفرج عليهن، وهن مكشوفات الوجوه سادلات الشعور، وما ثم ناكر لهذا المنكر، والصالحون يرفعون أصواتهم ويقولون: الله أكبر.

ومما وقع في شهر رجب المبارك من هذه السنة أن رجلاً زوّج ابنه وعمل وليمة عرس، وعند المساء أخذ العريس بعراضة وشمع وطبول. فخرجت عليهم أعوان المتسلم موسى كيخية، وكان رأس أعوان الحاكم محمود بشة البغدادي، وكان مدعوّاً في الوليمة، فلما توسّطوا السوق بالعراضة كان أول من بطش بهم، فتهاربت الخلق كلهم فهذا طار قاووقه، وهذا ترك بابوجه، والآخر أخذت جبته. وفي ثاني يوم أمر الحاكم بالقبض على أبي الغلام ورفعه للقلعة، وقد طلب منه مالاً عظيماً، والأمر لله العلي الكبير.

وفي هذه الأيام ذبح رجل في فراشه بقرية زبدين. وفي يوم السبت سابع عشر رجب ذُبح رجل شريف في حارة باب السلام في داره وما وجد عنده أحد. وكان قبل ذلك بأيام ضرب عمَّ هذا القتيل رجل في الدرويشية بطبنجة في رقبته، فذبحته ومات لوقته. قال المؤرخ وقد رأيته بعيني وهو مرمي في الطريق، ولم يثبتوا على القاتل شيئاً.

وفي نهار الثلاثاء تاسع رجب دخل مغربي إلى بعض البساتين يريد فساداً، فكلّمه صاحب البستان في الحسنى، فسبّه المغربي وشتمه شتماً بليغاً، وكان صاحب البستان شجاعاً، فقام إلى المغربي وخلّصه عدّته وكتّفه، ثم خاف من غائلة هذا الأمر، فحلّ كابه، وأعطاه عدّته واعتذر إليه، فما كان من المغربي إلاّ أن غلب عليه لؤمه، فأخذ بارودته وضربه رصاصاً، فقتله حالاً، فجاء أخو صاحب البستان فضرب المغربي بطبنجة جاءت في يده، فأراد المغربي الهرب، فوقع الصياح من الرجال والنساء، فجاء غلام فضرب المغربي بنبّوت فرماه إلى الأرض، فكتّفوه وإلى الحاكم أخذوه، فأقرّ لدى الحاكم بالقتل، وفي ثاني يوم خنقوه.

<<  <   >  >>