وبعد رحيل الباشا نادى المتسلم على الفلوس الرملية كل إحدى وعشرين فلساً بمصرية، وأطلق البغدادي الذي اتهم بقتل القرا مصطفى الكردي، وكانوا قد رفعوه للقلعة، وبعد إطلاقه بأيام سكر وعربد وضرب حمّارين فقتلهما، فاختبطت البلدة، وأرسل المتسلم في طلبه، فهرب ولم يظهر له أثر، ولا وقفوا له على خبر، فقبضوا على مملوك له فخنقوه.
وقبل خروج حضرة أسعد باشا إلى الحاج الشريف بثلاثة أيام انتهت عمارة دار الباشا، التي هي للحريم، وفرشت بأحسن المفروشات، ونقل حرمه إليها.
وفي تلك الأيام حصلت وقعة عظيمة بين الدروز والمتاولة، ومع المتاولة أيضاً أولاد الظاهر عمر حاكم طبرية، وقُتل من الفريقين، وحصروا قتلى الدروز، فكانوا نحواً من تسع مئة قتيل، وهي فتنة كبيرة. وفي يوم السبت خامس ذي القعدة ضربت مدافع فسألنا عن الخبر، فقيل جاء من السلطنة مقرر إبقاء أسعد باشا العظم والي الشام.
قال المؤرخ البديري: وفي ليلة الأربعاء لعشرين مضت من شهر ذي القعدة من هذه السنة توفي الشيخ إسماعيل بن شيخنا وأستاذنا الشيخ عبد الغني النابلسي، مات عن ثلاثين ولداً من بنيه وأولاد بنيه، وعمر سبعة وسبعين سنة، لأن مولده سنة خمس وثمانين بعد الألف ووالده الأستاذ مولده سنة خمسين بعد الألف ووفاته سنة ثلاث وأربعين ومئة بعد الألف فيكون عمر الأستاذ والده ثلاثاً وتسعين سنة، وكانت وفاته بالصالحية ودفن في دارهم التي في العنبرانية قبلى الجامع الأموي، وحُمل نعشه للصالحية، ودفن في دار أبيه بجانب ولده الشيخ طاهر، رحمهم الله تعالى ونفعنا ببركاتهم أجمعين.
[سنة ١١٦٤]
ثم دخلت سنة أربعة وستين ومئة وألف، كانت هلّة المحرم نهار الثلاثاء، جعلها الله سنة خير وبركة علينا وعلى المسلمين. وفي ستة وعشرين من المحرم جاء جوقدار الحج الشريف، وبشّر عن الحج بكل خير من كثرة الرخص والمياه وغير ذلك ولله الحمد. غير أن الغلاء لم يفارق الشام، فقد دخلت هذه السنة ورطل الخبز بخمسة وبستة مصاري، ورطل الأرز بعشرة مصاري، ورطل اللحم بثمانية وعشرين مصرية، ورطل الدبس بتسع مصاري، وأوقية السمن بستة مصاري، والعملة مغشوشة، والفلوس غير منقوشة، والنساء باحت والرجال ساحت، والحدود طاحت، والأكابر مشغولة ومروءة الرجال مغلولة، إلى آخر ما قال المؤرخ.
وفي تلك الأيام جاؤوا بأربع رؤوس من العرب قطاع الطريق، أتى بهم عيسى بشه الحبش، أحد الزرباوات الهاربين، فعُفي عنه لأجل ذلك.
وفي تاسع وعشرين محرم جاء كَتّاب الحج، وذكر أن هذه السنة هي أريح وأجود السنين في أيام الحاج أسعد باشا والي الشام حفظه الله. غير أنهم جاءهم سيل عظيم في عسفان أوقعهم أياماً، ثم أمر الباشا بأن يجدوا في المسير حتى ترك من العشرة اثنين، هكذا ذكر لي بعض الحجاج. ودخل الحاج يوم الأربعاء ثاني صفر. وثاني يوم الخميس دخل المحمل الشريف، وأسعد باشا وأخوه سعد الدين باشا سردار الجردة بالموكب العظيم. وثامن صفر دخل قاضي الشام عبد الله أفندي سعيد زاده ليلاً وعليه جلالة وهيبة ولم يتكلم بقال وقيل. وبلغنا أن عثمان باشا المحصل حاكم جدة مات ودفن بها.
وفي تلك الأيام من هذه السنة جاء منصب حلب إلى سعد الدين باشا أخو أسعد باشا، فتحوّل من طرابلس بعياله وذهب من دمشق إلى حلب، وقد أشاعوا أن سلفه حاكم حلب كان ظالماً غاشماً، وقد خرب قرايا كثيرة، وعمر عماير كثيرة، أخذ غالب مصارفها من أهل حلب، وبنى بها جامعاً يدهش الأبصار.
وبعد مجيء الحاج أسعد باشا من الحج الشريف وجدنا داره قد تمّت عمارتها، فلما دخلها زاد فرحاً وابتهاجاً وسروراً، فذبح الذبائح وأعطى المنائح، وأقام بها بلذة عيش، وبلغه مجيء تقريره في الشام، فازداد شكراً لمولى الأنام. غير أن أهل الشام في أكدار من غلاء الأسعار، وبخل التجار وانفساد الأحرار وضعف الصغار، وعدم زحمة الكبار، والحكم لله الواحد القهار. فلقد صار رطل اللحم الشامي بقرش، ورطل السمن بقرش ونصف، ورطل لحم الجاموس بأربعة وعشرين مصرية، والسمك مثل ذلك، ورطل لحم الجمل بثمانية عشر مصرية، وأوقية الرز بمصرية، والعسل الأوقية بشاهية. ورطل الخبز بستة مصاري، والناس في أسوأ الأحوال.