وفي تلك الأيام قتل قبقولي رجلاً شريفاً بعد العشاء، فاشتكت والدة القتيل للوزير أسعد باشا ولازمته، فأمر بإحضاره فقبضوا عليه بعد ما هرب، فأمر الوزير بخنقه، فخنق بالقلعة.
وفي تلك الأيام توفي الشاعر الأديب والفاضل اللبيب من لم ينسج في زمنه شاعر على منواله الشيخ عبد الرحمن البهلول رحمه الله تعالى، ودفن بباب الصغير قبالة بيوت النحّانة من جهة الشاغور. وهذا البهلول صاحب القبول هو صاحب القصيدة التي مدح بها الأستاذ الشيخ عبد الغني النابلسي المحتوية على أكثر من مئة تاريخ في كل شطر منها تاريخ. ولما قدم القصيدة لأستاذه الممدوح ورأى حضرة الشيخ أنها فريدة في بابها بهذا النسق المدهش العجيب قال له: لقد استخرنا الله تعالى يا شيخ عبد الرحمن وعملناك شيخ الأدب في الشام.
ونهار الاثنين خامس عشر ربيع الأول وقع سقف السوق الضيق خلف الجامع الأموي الذي فيه القهوة. وكان وقوعه بعد صلاة الحنفي. وكان تحته جماعة مات منهم أربعة أشخاص وهشّم جماعة.
قال المؤرخ البديري: وفي يوم الخميس ثامن عشر ربيع الأول خرجنا إلى سيران بناحية الشرف المطل على المرجة مع بعض أحبابنا. وكان الوقت في مبادئ خروج الزهر، وجلسنا مطلين على المرجة والتكية السليمية، وإذا بالنساء أكثر من الرجال جالسين على شفير النهر، وهم على أكل وشرب وقهوة وتتن. كما تفعل الرجال، وهذا شيء ما سمعنا بأنه وقع نظيره حتى شاهدناه ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال المؤرخ: ثم لم نزل في سرور وانبساط، حتى أنشدت هذا المواليا فقلت:
مضى لنا يوم مثله ما سبق يا خال ... في مرجة الشام ما تشوفون موضع خال
ملا خميس مضى ما صادفه أرزال ... في ثامن عشر ربيع الآخر راح البرد
يا هل الأدب أرّخوه الضيق عنكم زال
وفي ذلك اليوم وقع رجل معماري من سطح سوق الخياطين ومات لوقته. وثاني يوم الجمعة تاسع عشر ربيع الآخر مر الشيخ محمد بن جقيجقه في العمارة وحامل بيده قرنبيط إذ سقط على الأرض بلا روح، وحمل لداره ميتاً، رحمه الله.
وفي تلك الأيام أخذ أسعد باشا دار معاوية رضي الله عنه وأخذ ما حولها من الخانات والدور والدكاكين وهدمهم كذا وشرع في عمارة داره السرايا المشهورة التي هي قبلى الجامع الأموي، وجدّ واجتهد في عمارتها ليلاً ونهارا، وقطع لها من جملة الخشب ألف خشب، وذلك ما عدا الذي أرسلوه له أكابر البلد والأعيان من الأخشاب وغيرها، ورسم على حمامات البلد أن لا يباع قصرمل لأحد، بل يرسل لعمارة السرايا، واشتغلت بها غالب معلمي البلد ونجاريها، وكذلك الدهانين، بل قل أن يوجد معلم متقن أو نجار أو دهان كذلك إلا والجميع مشتغلون بها، وجلب لها البلاط من غالب بيوت المدينة، أينما وجد بلاط أو رخام وغير ذلك، مثل عواميد وفساقي يرسل فيقلعهم القليل من ثمنهم. وكان في قرب تربة البرامكة قصر يقال له الزهرابية، قيل هو من عمارة الملك الظاهر وهو على ظهر بانياس مطل على المرجة، وكان مكان منتزه عظيم تهدم غالبه. وفي قربه مدفن وعليه قبة من حجر ورأس القبة مقلوع، وفيه وهدة قيل إنه كان في رأسها خبية قديمة فأخذت. قال المؤرخ: وقد بلغني عن سبب أخذها أنه كان مكتوباً على باب جدار القبة هذا المواليا:
داري زمانك وصحبك ثم داريها ... وتجنب الناس عاليها وواطيها
وإن سألوك عن عيوب الناس غطّيها ... العقل في الراس قاضيها وواليها
وكان كل من يقرؤه يتخيل شيئاً، إلى أن جاء صاحب النصيب ليلاً وصعد إلى أعلى القبة وحفرها وأخذ ما فيها، ولم تزل بلا رأس إلى زماننا هذا، إلى أن أخبروا حضرة الوزير أسعد باشا العظم صاحب العمارة عن هذه القبة وعن المدفن الذي بجانبها، وأن الأراذل والأشقياء يجتمعون عندها هناك ليلاً ونهاراً على فسق وفساد وغير ذلك، فأمر بهدمها حالاً ونقل حجارتها إلى داره.