قال المؤرخ: وبلغني أن سبب فتحها أنه لما اشتد الحصار على أهلها، وقد قلّ الزاد من عندهم ولم يتمكنوا من جلب قوت مما قد أحاط بهم من العساكر والعربان وأنه بعد ضرب المدافع والقنابر أمر حضرة سليمان باشا بحفر خنادق ولغم طوله مئتان وثمانون ذراعا، ولما بلغهم ذلك ضاقت عليهم الدنيا وازداد فزعهم، أرسل الظاهر عمر المحصور شيخ طبرية إلى عمر بك صنجق الخزنة المصرية التي تأتي للدولة العلية بهيئة وافرة ليتوسط بالصلح بينه وبين حضرة سليمان باشا، وكان ذلك قبل وصوله ووصول الخزنة لدمشق. فلما وصلت سار عمر بك، ودخل على حضرة سليمان باشا حاكماً بمصر. وكان عمر بك رجلاً وقوراً كبير السن، وقال له: يا حضرة الوزير، أنا رجل كبير السن بمنزلة والدك، وإن كنت من جملة خدمك، وداخل على جاهك في الصلح بينك وبين عبد نعمتك ودولتك الظاهر عمر شيخ طبرية والصفح من شيم الكرام، وأنتم الكرام لا سواكم. فأجابه حضرة الباشا بأنه يصير خير إن شاء الله تعالى. ولما كان ثاني أيام العيد، عيد الفطر اشتد على أهل طبرية الأمر، وزاد عليهم الحصر، خرجوا إلى أعلى الأسوار رافعين أصواتهم ينادون حضرة علي آغا الترجمان، ولما قرب منهم قالوا له: لك الأمان ادخل الباب فأخذ الإذن من الباشا ودخل الباب. وكان حضرة سليمان باشا قد أدركه السفر إلى الحاج، فدخل علي آغا إلى قلعة طبرية فتلقّوه كذا المشايخ ومعهم الظاهر عمر، فوقعوا على قدميه وصاروا يبكون حواليه، وعملوا له عشرة أكياس، ليدخل بينهم وبين حضرة سليمان باشا بالصلح، ثم خرجت النساء والأطفال والشيوخ يبكون وينتحبون فرقّ لهم، وسار طالباً حضرة الباشا، فلما وصل إليه وقع على قدميه، ووعظه بالحلم والإشفاق، وذكر له فضائل محاسن الأخلاق، فرقّ قلبه وأجاب سؤاله فلما علم المحصورون وتحققوا أن حضرة الباشا عفاعنهم وصفح خرجت النساء والرجال والأطفال، وفي رقابهم المحارم وعليهم الذل رافعين أكفّ الضراعة بالمسكنة، وضاجّين بالأدعية له وللسلطان الأعظم، ودفعوا لحضرته مئتا كذا كيس من المال بعدما أخذ ابن الظاهر عمر رهينة وأتى إليه إلى الشام، وأرسل جماعة لهدم القلعة وإبادتها.
قال المؤرخ: هكذا حدّث بذلك علي آغا شاطر باشي، وقد نقلت لنا على غير هذا الوجه. والله أعلم بحقيقة الحال.
وفي يوم الجمعة عاشر شوال من هذه السنة توفي الحسيب النسيب السيد عبد الله بن عجلان نقيب السادة الأشراف بالشام، ودفن بمدفنهم في سوق الغنم لضيق جامع المرادية، وكان يومئذ معزولاً عن النقابة وهي على ابن أخيه السيد علي أفندي. وفي ذلك اليوم عزل السيد علي أفندي عن النقابة، ووجهت على السيد محمد أفندي بن الشيخ عبد القادر الكيلاني، وفي ذلك اليوم أيضاً عزل حامد أفندي ابن العمادي عن وظيفة الإفتاء ووجهت إلى ابن عمه محمد أفندي ابن العمادي.
قال المؤرخ رحمه الله: وفي ليلة السبت حادي عشر شوّال توفيت والدتي في الثلث الأول من الليل، رحمها الله وعفا عنها وبرّد مضجعها، وقد فارقت الدنيا وأنا بين رجليها نائم، وكانت من القانتات العابدات تصلّي نوافل الليل، ولها أوراد، إلى آخر ما قال.
وفي ذلك الشهر من هذه السنة بعد صلاة الجمعة خرج المحمل الشريف مع الوزير الخطير سليمان باشا بن العظم. وثاني يوم السبت جاء الحج الحلبي ومعه ألف وسبع مئة عجمي. وفي عشرين شوال خرج الحج، من البلد شيئاً فشيئاً. وقبل سفر الوزير سليمان باشا عمل ديواناً وأحضر الأعيان، وأظهر الفرمان الذي فيه قتل الزرباوات أي المفسدين من الإنكشارية، وقال لمن حضر: هذا الفرمان الذي أمره مفوض لنا قد ألغيناه وعفونا عنهم، وعُدّ ذلك من حسناته.
وكان أول يوم فصل الشتاء في هذه السنة من يوم الأربعاء تاسع وعشرين شوال وهو يوم دخول المزيرباتية، وأقام الباشا في المزيريب أربعة أيام ورحل في اليوم الخامس، وشال الحج عرب بني صخر وقد كان كل شيء رخيص من جميع البضائع ماعدا المعموك، والشعير المدّ بنصف وقرش، وقد رجع من الغلمان خلق كثير، وأمطرت السماء مطراً غزيراً يوم مجيء المزيرباتية بعد أن قنطوا، فاستبشرت عموم الخلق وحمدوا الباري على لطفه.