للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

تأمّلهما فإنك ترى بينهما من التّباين ما يحظُر ادِّعاء ذلك فيهما، ولو احتمل الكتابُ استقصاءَ ما حافَت به هذه الطائفة على أبي نواس وأبي تمام والبحتري لبسطنا القولَ فيه؛ لكنه لما ضاق عنه اقتصرنا على قدْر ما أريناك به الطريقة، ووقفْناك به على المنْهج، فإن سمَتْ بك همّة، ونازعتك رغبة، فاقْتَفِ فيه هذا الأثر، وعايره بهذا المعيار فإنك لا تبعدُ عن الإصابة ما لم تمِلْ بك العصبيةُ، ويستولي عليك الهوى والمداهنة.

والسَّرَق - أيدك الله - داءٌ قديم، وعيبٌ عتيق، وما زال الشاعر يستعينُ بخاطرِ الآخر، ويستمدّ من قريحته، ويعتمدُ على معناه ولفظه؛ وكان أكثره ظاهراً كالتوارد الذي صدّرنا بذكره الكلام، وإن تجاوزَ ذلك قليلاً في الغموض لم يكن فيه غيرُ اختلاف الألفاظ، ثم تسبّب المحدثون الى إخفائه بالنقل والقلب؛ وتغيير المنهاج والترتيب، وتكلّفوا جبْرَ ما فيه من النقيصة بالزيادة والتأكيد والتعريض في حال، والتصريح في أخرى، والاحتجاج والتعليل؛ فصار أحدهم إذا أخذ معنى أضاف إليه من هذه الأمور ما لا يقصر معه عن اختراعه وإبداع مثله. وقد ادّعى جرير على الفرزدق السَّرَق فقال:

سيعلمُ منْ يكونُ أبوه فينا ... ومن عُرِفت قصائدهُ اجتلابا

وادّعى الفرزدق على جرير فقال:

إنّ استراقَك يا جريرُ قصائدي ... مثل ادّعاك سوى أبيكَ تنقُّلُ

ومتى أنصفتَ علمت أن أهل عصرِنا، ثم العصر الذي بعدنا أقربُ فيه الى المعذرة، وأبعد من المذمّة؛ لأن من تقدّمنا قد استغرق المعاني وسبق إليها، وأتى على معظمها؛ وإنما يحصل على بقايا: إما أن تكونَ تُرِكت رغبةً عنها، واستهانةً بها، أو لبعدِ

<<  <   >  >>