للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

قالوا: وقد جاء في شعر العرب ما يُشبِه هذا مما أُقيم فيه أحد الكتابين مقام الأخرى اعتماداً على المعنى؛ مثل قول لبيد:

فبنى لنا بيتاً رفيعاً سَمْكهُ ... فسَما إليهِ كهلُها وغُلامُها

يريد كهلُنا وغُلامنا. قالوا: وشبيهٌ بهذا قول الله تعالى: (حتى إذا كنتُم في الفُلكِ وجرَيْن بهم بريحٍ طيّبة) عدل عن ضمير المخاطب الى ضمير الغائب اعتماداً على ظهور المعنى. قالوا: ويجوز أن يكون اكتفى بقوله: وإني لمن قومٍ كرام وأشرافٍ.

فحذف الصفة استغناء بما تقدم، وما تعقب من الكلام، ثم ابتدأ خبراً ثانياً، وصرف الخطاب عن الأول، وهذا سائغٌ لا يُردّ. ألا تراه لو قال: وإني لمن قوم كرام، ثم أمسك لكان قد استكمل الفائدة، واستوفى الغرض، ولم يُحظَر عليه العدول الى غيره، ولم يُطالَب بردّ الضمير الى ما تقدّمه. ومن طلب أبواب الحذْف والاختصار، والانتقال من كلام الى كلام، والانصراف عن الخطاب قبل استتمامه اجتزأ بظهور الغاية واستِبانة المراد. وتتبّع ذلك في معادنِه. والكتب المصنفة فيه تصوّر صحةَ ما قلناه؛ فأما استقصاء ذلك وذِكْرُ جميعه فمما يُعظِم حجم الكتاب، ويُطيل حواشي الكلام، ولا يحصلُ منه على كبير فائدة.

وأنشدوا لعبد الله بن قيس الرُقيّات:

فتاتان أما منهما فشبيهة ... هلالاً وأخرى منهما تشبه الشمسا

فتاتان بالنجم السعيد وُلِدتُما ... ولم تلقيا يوماً هواناً ولا نحْسا

فلم يقل فتاتان ولدَتا، وهو حق الكلام؛ لكنه عدل إليهما مخاطباً، ولم يحفِل بتغيير الكنايات والضمائر. قوله: فتاتان كالمنقطع من الكلام قبل استقلاله بفائدة، والكلام الثاني كالمبتور قبل تمامه إلا أن يُحمَل على ما حملنا عليه بيتَ أبي الطيب،

<<  <   >  >>