للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

زعم بعض المحتجين عنه أنّ العرب تحمل الكلام على المعنى فتصرفُ الضمير عن وجهه، وتترك ردّه مع الحاجة إليه؛ لأن المراد بالضمير الثاني هو الأول في الحقيقة، وإن اختلفت العلامتان. قالوا: وقد جاء ذلك عن العرب في الأسماء الناقصة التي تتم صلاتُها وهي أحوجُ الى الضمير الراجع إليها؛ لأنها كالحرْف المفرد لا يتمّ إلا بالحروف التي تنْضافُ إليه؛ فصلَتُه بما فيه من الضمير كبقية حروف الاسم، فهو أمسّ حاجةً، وأشدّ افتقاراً الى ردّ الضمير إليه، وتكميل ذلك النّقص به، فمما جاء في ذلك قول المهلهل:

وأنا الذي قتلتُ بكراً بالقَنا ... وتركتُ تغلِبَ غير ذاتِ سِنام

وإنما وجه الكلام: وأنا الذي قتَل؛ ويكون في قتل ضميرٌ تقديرُه وأنا الذي قتل هو.

وقول أبي النجم:

يأيّها الذي قد سُؤتَني ... وفضحتني وطردتَ أمّ عِياليا

ولو ردّ الضميرَ على حقيقة الكلام لقال: الذي قد ساءني.

وكل هذا حُمل على المعنى، قالوا: وقد جاء في القرآن العزيز: (إن الذين آمَنوا وعمِلوا الصالحات إنّا لا نُضيعُ أجْرَ من أحسَن عمَلاً) . وليس في الخبر ما يرجعُ الى الأول، ولو ردّ الضميرُ الى الأول لقيل: إنّا لا نضيعُ أجرَهم؛ لكنه لما كان من أحسن عملاً هم المُضمرون بهم، الذي في أجرهم جاز أن ينوبَ أحدُهما عن الآخر، لأنّ من أحسن عملاً هو من آمن.

ومثلُ هذا قوله تعالى: (والذين يمسِّكون بالكِتاب وأقاموا الصلاة إنّا لا نضيعُ أجرَ المُصلحين) لما كان معنى المصلحين معنى الذين يمسكون بالكتاب جاز أن يُقام مقامَه فيعود الذكر إليه في المعنى، فكأنّه قال: إنا لا نُضيع أجرَهم. وعلى هذا أجاز النحويون: المؤمنُ أكرمُ من اتّقى الله، لأن معنى من اتّقى الله معنى المؤمن؛ قالوا: فكذلك هذان الضميران في اتفاق المعنيين.

<<  <   >  >>