للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قال أبو نعيم: فكان في نفسي من هذا الحديث شيء، حتى حدثني حمزة بن حبيب الزيات، قال خرجت سنة من السنين أريد مكة، فلما صرت إلى بعض الطريق ضلّت راحلتي، فخرجت أطلبها، فإذا أنا باثنين قد قبضا علي، أحس جسمهما، ولا أرى شخصهما، بل أسمع كلامهما فأخذاني إلى شيخ قاعد على تلة من الأرض، وهو حسن الشيبة، فسلمت عليه فرد السلام، فأفرخ روعي، ثم قال لي: من أين أنت؟ وإلى أين؟ قلت: من الكوفة إلى مكة.

قال: ولم تخلّفت عن أصحابك؟ قلت ضليت براحلتي، فجئت أطلبها، فرفع رأسه إلى قوم عنده وقال أنخ راحلته، فأنيخت بين يدي، ثم قال: أتقرأ القرآن قلت نعم. قال: فاقرأ: فقرأت حم الأحقاف، حتى انتهيت إلى (وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ الْجِنّ) [الأحقاف: ٢٩] .

فقال مكانك، أتدري كم كانوا؟ قلت: لا، قال: كنا أربعة، وكنت أنا المخاطب عن النبي صلى الله عليه وسلم لهم، فقلت:"يا قومنا أجيبوا داعي الله، ثم قال: أتقول الشعر؟ قلت: لا، قال: فترويه، قلت: نعم، قال: هاته".

فأنشدته قصيدة زهير بن أبي سلمى: [الطويل]

أمنْ أمِّ أوفى دِمنةً لم تَكَلَّمِ ... بحوْمانةِ الدَّرَّاج فالمتثلِّمِ

فقال لمن هذه؟ قلت: لزهير بن أبي سلمى، قال: لجنيّ، قلت: بل لأنسيّ، ثم رفع رأسه إلى قوم عنده، فقال: ائتوني بزهير فأُتي بشيخ كأنه قطعة لحم فألقي بين يديه، فقال له: يا زهير، قال: لبيك، أمن أمِّ أوفى دمنة لم تكلم، لمن هي قال لي، قال حمزة الزيات يذكر أنه لزهير بن أبي سلمى، قال: صدق وصدقت، قال: وكيف هذا؟ قال هو العي من الإنس، وأنا تابعه من الجن أقول الشيء فألقيه إليه في فهم، ويقول الشيء فآخذه عنه، فأنا قائلها في الجن. وهو قائلها في الإنس، قال أبو نعيم فصدق عندي هذا الحديث، حديث إلى الجزاء أن وساوس الرجل تحدث وساوس، فمن ها هنا تفشوا الأسرار، فاستفرغ المتوكل ضحكاً، وقال إليَّ إليَّ يا فتح قضت عليه خلعة، وحمله على فرس وأمر له بمال، وأمر لي بدون ما أمر له، فانصرفت إلى منزلي، وقد شاطرني الفتح ما أخذ فصار لي الأكثر، والأقل للفتح.

قال أبو عبيدة وقف حاجب بن زرارة على باب كسرى يستأذن عليه، فقال كسرى: قولوا له من أنت؟ قال: سيد العرب، فقال كسرى: أما زعمت أنك رجل منهم؟ فكيف تكون سيدهم؟ فقال: أيها الملك، وقفت ببابك، وأنا رجل غير متقدم عليهم، فلما وصلت إلى الملك سُدتهم، فقال كسرى: أحسنت احشوا فاهُ دراً.

قيل لأعرابي: ما السيد فيكم؟ قال: من أفشى سلامه، وملك كلامه، وبذل طعامه.

قالت الخنساء لعمر كان لله لديك نِعم قد أنعم بها عليك وإحسان قد أحسن به إليك، ثم وصَّاك وعهد إليك أن تغيث الملهوف إذا وفد عليك، فإن كان قد انتزع منك تلك العطية، فقد أباحك ترك الوصية، وإن كانت نعمة لديك نامية فوصيته لك لازمة، وها أنا قائمة بين يديك، ورقيباك شاهدان عليك إن أحسنت إليَّ محسناً سخيَّاً (وَمَن يُوقَ شُحّ نَفْسِهِ فَأُوْلََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر:٩] .

وإن رددتني كتبناك مسيئاً بخيلاً (وَمَن يَبْخَلْ فَإِنّمَا يَبْخَلُ عَن نّفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَآءُ) [محمد: ٣٨] .

ثم ولت منصرفة فاستعادها وردها وقال لا والله ما أرتجع تلك العطية، ولا أباحني ترك الوصية، بل نعمة لدي نامية، ووصيته لي لازمة، فأعطاها ما أمكنه واعتذر.

قال أبو العباس: اختلف الناس في الجمائر الثلاثة ماهي، فقال قوم إن العرب كانت توقد النار في الشتاء للاصطلاء في كل يوم ثلاث مرات في حفر فالأولى وقت الغداة فيبقي جمرتها يصطلون بها إلى قريب الظهر، ثم تصير رماداً، فيعودون فيوقدونها ثانياً في الحفرة من وقت الظهر فتبقى جمرته، يصطلون بها إلى وقت المغرب.

ثم تنطفىء وتصير رماداً، فيعودون، ويوقدون الثالثة من وقت المغرب، فيصطلون بها، حتَّى يناموا، فإذا كان اليوم السابع من شباط حَمِيت الشمس، وانكسر البرد، فأسقطوا جمره، وهي، التي تكون وقت الظهر وسط النار، فلم يوقدوا، وإذا مضى منه أربعة عشر يوماً نزلت الشمس الحوت واشتد حرها، أسقطوا الجمرة، التي تكون آخر النهار، فإذا جاء يوم الحادي والعشرين أسقطوا جمرة الغداة، ولم يوقدوا شيئاً.

<<  <   >  >>