إن اعتذاري لمن قد جاء يسألني ... ما ليس عندي لمن إحدى المصيبات
قال أحمد بن معاوية بن بكر، كانت أم هشام بنت منظور بن زبان عند عبد الله بن الزبان، فلما قتله الحجّاج من قبل عبد الملك بن مروان، بعث إليها عبد الملك بن مروان من يخطبها عليه، فلما بلغها الخبر.
قالت يقتل بعلي بالأمس واتزوجه اليوم، ثم خافت إن ردته تضر بأهلها، وبها في نقيها، وكانت من أجمل النساء، وأحسنهن ثغراً، فدعت بفهر يعني حجراً، فحطمت به فاها، فكسرت ثناياها، وبعد أيام، تلثمت، وأذنت لرسوله، فلما أبلغها الرسالة قالت: ما لأمره مردّ، ولا وراءه مذهب، ثم كشفت عن فيها وقالت: ما أحسب لأمير المؤمنين فيّ حاجة، بعد ما ترى، وحسرت عن فيها، فلما رأى رسوله ذلك انصرف إليه، فأخبره، وأمسك عنها.
وقال ابن عائشة حدثني أبي قال: كانت عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل عند عبد الله بن أبي بكر الصديق، فزاد حبه لها، حتّى شغلته عن سوقه وصنعته، فقال أبوه يا بني قد شغلتك هذه عن صنعتك وسوقك، فطلقها واحدة، ثم اشتد وجده عليها فجاء لأبيه على طريقه، وأنشده، وهو يبكي: [الطويل]
ولم أر مثلي طلقّ النّوم مثلها ... ولا مثلها من غير ذنب تطلّقُ
فرق له أبوه، وأمره بمراجعتها، فلم تزل عنده، حتى ضنى من السهم الذي أصابه في الطائف، ومات عنها، فرثته وقالت:
فُجعت بخير الناس بعد نبيهم ... وبعد أبي بكر وما كان قصَّرا
فآليتُ لا تنفك عيني سخينةً ... عليك ولا ينفكُّ جلدي أغبرا
مدى الدهر ما غنت حمامةٌ أيكةً ... وما طرد الليل النهار المنوِّرا
فلله عيناً منْ رأى مثله فتىً ... أكدُّ، وأحمى في الهياج، وأصبرا
ومنها:
إذا شرعت فيه الأسنةُ خاضها ... إلى الموت حتى يترك الموت أحمرا
قال ابن عائشة فقلت لأبي أنشد ما قدمته، قال إنه كان قديم الإسلام، وكان يختلف إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) وإلى أبي بكر وهما بثور، تعني جبلاً اسمه ثور بالطعام.
قال محمد بن عمر: فلما هلك عبد الله بن أبي بكر خلف عليها عمر بن الخطاب، قال حماد بن سلمة، وقد كان عبد الله بن أبي بكر أعطاها أربعة آلاف درهم، وقال ابعثي بها إلى أبي بكر، فإن هذا لا يصلح، قال فأولم عليها عمر، ثم دعاه أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فجاء الزبير فجلس قريباً من المخدر وقال:
فآليت لاتنفكُّ عيني سخسنةً ... عليك ولاينفكّ جلدي أغبرا
فقال عمر ما أردت بذلك، قال أردت أن أذكرها العهد، قال: وكانت تحضر الصلاة، وكانت جميلة، وكان عمر غيوراً، وكان يقول لها لو أنك صليت في بيتك، فتقول لا، والله، أو تنهاني لا، والله، لا أنهاك، وقد سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول:"لا تمنعوا إماء الله مساجد الله".
فلم تزل عنده، حتى قتل رحمه الله ورضي عنه فرثته وقالت: [الخفيف]
فجعتني المنون بالفارس المعلّمِ ... يوم الهياج والتلبيبِ
عصمة الناس والمجير على الدهر ... وغيث المكروب والمخروبِ
قل لأهل الضَّرَّاء والبؤس موتوا ... قد سقته المنون كأس شغوبِ
قال فخلف عليها بعده الزبير، وكان يقول لها لو صليت في بيتك فتقول مثل مقالها لعمر، قال حماد بن مسلمة، فخرجت يوماً مغسلة وخرج الزبير في أثرها متنكراً، فدنا منها فضرب بيده على أوراكها، فلما رجعت لزمت بيتها، ولم تخرج فكان يقول لها لم تركت الصلاة في المسجد فتقول هيهات فسد الناس يا أبا عبد الله، فقتل عنها فرثته، وقالت شعراً: [الكامل]
عدير ابن جرموز بفارس بهِمَّةٍ ... يوم اللقاء، وكان غير معردِ
يا عمرو لو نبهته لوجدته لا طائشاً ... رعش السِّنان، ولا اليدِ
سألت عينيك إن قتلت لمسلماً ... حلَّت عليك عقوبة المتعبِّدِ
فخلف عليها محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر، فلم تزل عنده، حتى قتل عنها ومثلوا به، فإنهم أدخلوه جوف حمار، ثم حرقوه، فقالت: [الطويل]
فإن تقتلوا أو تمثلوا بمحمَّدٍ ... فما كان من أجل النِّساء ولا الخمرِ
قال أبو الحسن المدائني، فكان ابن عمر بعد ذلك يقول: من أراد الشهادة فليتزوج عاتكة بنت زيد.