ثم قال: يا أمير المؤمنين، هذه أمانة، فإذا قرأت، فمزق الرقعة، ثم أمر دلامة أن يدخل على أمير المؤمنين، ويقرئه ما في رأسه، فأتى الباب وصاح: دعوة مظلوم، فأعلم المنصور بذلك، فأقر بإدخاله، فكشف رأسه وقال: إن ظلامتي مكتوبة في رأسي، فأدنى منه حتى قرأها، فاشتد ضحكه، وعجب من حيلته وأمر بإخراجه وقال: ما أحوج هذه الرقعة أن تمزق، ثم وصله بصلة، ونهاه أن يوجد وهو سكران.
وضلت ناقة لأعرابي في ليلة مظلمة، فأكثر طلبها، فلم يجدها، فلما طلع القمر وانبسط نوره وجدها إلى جانبه ببعض الأودية، وكان قد اجتاز بموضعها مراراً، فلم يرها؛ لشدة الظلام، فرفع رأسه إلى القمر وقال:
ماذا أقول، وقولي فيك حصر ... وقد كفيتني التفصيل والجملا
إن قلت: لا زلت مرفوعاً، فأنت كذا ... أو قلت: زانك ربي، فهو قد فعلا
وكان أبو هرمة أبخل الناس على ادعائه الكرم في شعره، فأتاه يوماً جماعة، فقال: ما جاء بكم؟ فقالوا: شعرك، حيث تقول:
أغشى الطريق بقبتي ورواقها ... وأحل في قلل الربى، وأقيم
إن امرءاً جعل الطريق لبيته ... طبناً، وأنكر حقه للئيم
فنظر إلينا، وقال: ما على الأرض عصبة أسخف منكم عقولاً، أما سمعتم قول الله سبحانه: (وأنهم يقولون ما لا يفعلون) في الشعراء؟ والله، إني لأقول ما لا أفعل، وأنتم تريدون أن أفعل ما أقول، والله، لا عصيت ربي في رضاكم.
وكان عبد الصمت مؤدب الوليد لوطياً زنديقاً، وكان سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت جميل الوجه شاعراً، فدخل على عبد الصمد، فأراده في نفسه، فسبه وخرج مغضباً، فدخل على هشام بن عبد الملك وهو يقول:
إنه والله، لولا أنت، لم ... ينج مني سالماً عبد الصمد
قال هشام: ولم؟ قال:
إنه قد رام مني حطة ... لم يرمها قبله مني أحد
قال: وما هي؟ قال:
رام جهلاً بي، وجهلاً بأبي ... يدخل الأفعى إلى غيل الأسد
فضحك هشام، وقال: لو فعلت به شيئاً لم أنكر عليك، وهذا من أبدع الكناية، وقد أحسن التعبير حيث رقق هذا المنكر الأكبر، وعبر عنه بلفظ يليق أن يقابل به خليفة.
وقال أبو بكر الصولي: اجتمعت الشعراء بباب المعتصم، فبعث إليه محمد بن عبد الملك الزيات، وقال لهم: أمير المؤمنين يقرئكم السلام، ويقول لكم: من كان يحسن أن يقول مثل قول النمري في الرشيد فليدخل، وأنشد له:
إن المكارم والمعروف أودية ... أحلك الله منها حيث تجتمع
من لم يكن بك، يا هارون معتصما ... فليس بالصلوات الخمس ينتفع
فقال ابن وهب الحميري: فينا من يقول مثله، وأحسن منه، وأنشد له:
ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتهم ... شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر
تحكي أنامله في كل نائبة ... الغيث والصمصامة الذكر
وقال الزبير بن بكار: ذكر عبد الله بن مالك الخزاعي قال: كنا بالرقة، مع هارون الرشيد، فأتى موت الكسائي وإبراهيم الموصلي والعباس بن الأحنف في وقت واحد، فقال لابنه المأمون: أخرج فصل عليهم، فخرج في وجوه قواده وخاصته، وقد ذهبوا له، فقالوا له: من تقدم منهم؟ فقال: الذي يقول:
يا بعيد الدار من وطنه ... مفرراً يبكي على شجنه
كلما هاجت صبابته ... زادت الأسقام في بدنه
ولقد زاد الفؤاد شجاً ... هاتف يبكي على فننه
شفه ما شفني، فبكى ... كلنا يبكي على شجنه
فقالوا: هذا، وأشاروا إلى نعش العباس بن الأحنف، فقدمه عليهم.
وقال أيضاً الزبير بن بكار: أنشد منشد أبا العباس المخزومي:
بيناهم سكن بجيرتهم ... ذكروا الفراق، فأصبحوا سفرا
فبكى أبو السائب وقال: ويحهم، أما علقوا سفره، أو أوكوا قربة، أو ودعوا صديقاً؟ قال الزبير: رحم الله أبا السائب، كيف لو سمع قول العباس بن الأحنف:
سألونا عن حالنا: كيف أنتم ... وقرنا وداعهم بالسؤال
ما نزلنا حتى رحلنا، فما نفرق ... بين النزول والترحال
وقال أحمد بن إبراهيم: وقع بين أحمد بن حامد وامرأته شر، كادا يخرجان معه إلى القطيعة، وكان يحبها، فلقيته يوماً، فسألته عن حاله. فأومأ أنه استراح، إذ هجرها، فقالت له: ذهب عنك قول العباس بن الأحنف:
تعب يكون به الرجاء مع الهوى ... خير له من راحة في الياس