مصداقاً لما سفح لك، وأريتك مثالاً شاهداً، وجعلت وجهي بمنزلة الدنيا، فكما أنه ليس في الوجه إلا أنف واحد، فكذلك ليس في مملكة الهند غيري، قال له الإسكندر: ما أحسن ما تأتي لك، فما بالك حين أنفذت إليك قدحاً مملوءاً سمناً غزرت فيه إبراً ورددته إلي؟ فقال الفيلسوف: علمت أنك تقول: إن قلبي امتلأ علماً مثل هذا الإناء من السمن، فليس لأحد من الحكماء فيه مزيد، فأخبرت الملك أن علمي سيزيد فيه، ويدخل كما دخلت هذه الإبر في هذا السمن، قال: فأخبرني، ما بالك حين علمت من الإبر كرة، وبعثتها إليك صنعت منها مرآة صقيلة ورددت إلي؟ قال: علمت أنك تريد أن قلبك قد قسا من سفك الدماء، والشغل بسياسة الملك بقساوة هذه الكرة، فلا يقبل العلم، فأخبرتك بسبكي هذه الكرة، والحيلة في أمرها، حتى جعلت منها مرآة ترى الصور عند المقابلة، فكذلك أفعل بقلبك، قال الإسكندر: صدقت، فأخبرني أيها الفيلسوف حين جعلت المرآة في الطست، وجعلت عليها الماء حتى رسبت، لم صنعت منها إناء يطفو فوق الماء ثم رددتها إلي؟ قال: علمت أنك تريد أن الأيام قد قصرت، والأجل قريب، ولا يدرك العلم الكثير في الأمد القليل، فأجبتك ممثلاً أني سأعمل الحيلة في إيراد العلم الكثير في الأمد القليل إلى قلبك، بتقريبه من فهمك، كاحتيالي للمرآة من بعد كونها راسبة في الماء، جعلت طافية عليه، قال الإسكندر: صدقت، فأخبرني، ما بالك حين ملأت لك الإناء تراباً رددته إلي، ولم تحدث فيه شيئاً كفعلك فيما سلف؟ قال الفيلسوف: علمت أنك تريد بالتراب الموت، وأنه لابد منه، ومن لحوق هذه البنية بهذا العنصر البارد الذي هو الأرض، ومفارقة النفس الناطقة الشريفة لهذا الجسد، فأعلمتك حين لم أحدث فيه شيئاً ألا حيلة في ذلك ولا عمل، قال له الإسكندر: صدقت، ولأحسنن إلى الهند من أجلك، وأمر له بجوائز كثيرة، فقال له الفيلسوف، لست أحتاج شيئاً يلهيني عن عملي، ولا أدخل عليه ما ينافيه، وخيره الإسكندر بين الإقامة عنده، أو الرجوع إلى وطنه، فاختار الرجوع إلى وطنه، فخلى عنه، وأما القدح فأدهقه بالماء، ثم أورد عليه الناس، فلم ينقص منه شيء، وكان فيما يقال معمولاً بمضروب من خواص الهند، وقد قيل: إنه كان لآدم عليه السلام بأرض سرنديب من أرض الهند، مما نزل في الجنة، فورث عنه، وتوارثه الملوك إلى أن انتهى إلى هذا الملك من ملوك الهند، وأما الطبيب، فإنه كان له معه أخبار طويلة، ومناظرة عجيبة في صنعة الطب.
[الباب الثاني في الحكايات والأخبار ذوات الأشعار]
كان أحمد بن المدبر، إذا مدحه أحد، ولم يرض بشعره، قال لغلامه: امض به إلى المسجد، ولا تفارقه حتى يصلي مائة ركعة، ثم خله، فتحاماه الشعراء إلا الأفراد المجيدون، فجاءه الحسين بن عبد السلام الضرير المعروف بالجمل، فاستأذنه في الإنشاد فقال له: أعرفت الشرط؟ قال: نعم، وأنشد:
أردنا في أبي حسن مديحا ... كما بالمدح تنتجع الولاة
فقلنا: أكرم الثقلين طراً ... ومن كفاه دجلة والفرات
فقالوا: يقبل المدحات لكن ... جوائزه عليهن الصلاة
فقلت لهم: وما تغني صلاتي ... عيالي، إنما الشأن الزكاة
فأما إذ أبى إلا صلاتي ... وعاقتني الهموم الشاغلات
فيأمر لي بكسر الصاد منها ... لعلي أن تنشطني الصلات
وحضر أبو نواس مجلس منصور بن عمار، فرآه الناس يبكي، فظنوا أنه تاب، وجعلوا يهنئونه، ويقولون: نرجو لك الله، فقال: أنا أهون على الله من ذلك، وليس كما تظنون، ولكن أبكي لبكاء ذلك الغزال، ونظر إلى غلام بالمجلس يبكي من وعظ منصور، ثم قال:
لم أبك في مجلس منصور ... شوقاً إلى الجنة والحور
لكن بكائي، لبكا شادن ... تقيه نفسي كل محذور
تنتسب الألسن في وصفه ... إلى مدى عجز وتقصير
وحضر مجلس بعض القصاص أيضاً، فقالوا له: لعل الله تعالى قد أقبل عليك، فقال: إنما حضرت لأجل هذا الغزال، ثم قال:
خلياني والمعاصي ... ودعا ذكر القصاص
واسقياني الخمر صرفا ... في أباريق الرصاص
وعلى وجه غزال ... طائع ليس بعاصصي
بين فتيان كرام ... قد تواصوا بالمعاصي
إن لي رباً غفوراً ... وعلى الله خلاصي