وكتب الإسكندر كتاباً إلى بعض ملوك الهند، يقول له فيه: أما بعد، إذا أتاك كتابي هذا، فإن كنت قائماً فلا تقعد، وإن كنت ماشياً فلا تلتفت، وإلا مزقت ملكك، وألحقتك بمن مضى من الملوك قبلك، فلما ورد الكتاب عليه أجاب بأحسن جواب، وخاطبه بملك الملوك، وأعلمه أنه اجتمع عنده أشياء، لم تجتمع عند غيره، فمن ذلك ابنة لم تطلع الشمس على أحسن منها، وفيلسوف يخبرك بمرادك، قبل أن تسأله؛ لحدة ذهنه وحسن قريحته، واعتدال مزاجه، واتساع علمه، وطبيب لا تخشى معه دواء ولا شيئاً من العوارض، إلا ما يطرأ من الفناء والدثور. وقدح إذا ملئ بالماء شرب منه عسكر له بجمعه، ولا ينقص منه شيء، وأنا منفذ جميع ذلك إلى الملك، فلما قرأ الإسكندر الكتاب، ووقف على ما فيه، قال: كون هذه الأشياء عندي، ونجاة هذا الملك الحكيم من صولتي أحب إلي من ألا تكون عندي ويهلك، فأنقذ إليه الإسكندر جماعة من حكماء اليونانيين والروم وعدة من الرجال، وقال لهم: إن كان صادقاً فيما كتب، فسوقوا تلك الأشياء، ودعوا الرجل في موضعه، وإن تبين لكم أن الأمر على خلاف ذلك، فأشخصوه إلي، فمضى القوم حتى انتهوا إلى مملكة ذلك الرجل، فتلقاهم بأحسن قبول، وأنزلهم أحسن منزلة، فلما كان اليوم الثالث، جلس لهم مجلساً خاصاً، للحكماء منهم، دون من كان معهم من المقاتلة، وتكلم معهم في أصول الفلسفة، ثم أخرج الجارية، فلما ظهرت لأبصارهم، ورمقوها بأعينهم لم يقع طرف واحد منهم على عضو من أعضائها إلا وقف عنده، ولم يمكنه أن يتعدى إلى غيره، ثم أراهم بعد ذلك ما تقدم الوعد به وصرفهم، وصير الفيلسوف والطبيب والجارية والقدح معهم، فلما وردوا على الإسكندر أمر بإنزال الطبيب والفيلسوف، ونظر إلى الجارية، فحار عند مشاهدتها، وبهرت عقله، وأمر بقية جواريه بالقيام عليها، ثم صرف همته إلى الفيلسوف، وإلى علم ما عند الطبيب، وقص عليه الحكماء ما جرى لهم من المباحثة مع الملك الهندي فأعجبه ذلك، ثم أراد مباحثة الفيلسوف على ما خبر عنه فخلى بنفسه وأجال فكره فيما يختبره به، فسنح له سانح من الفكر بإيقاع شيء يختبره به، فدعا بقدح، فملأه سمناً، وبعثه إليه، فلما ورد الرسول بالقدح على الفيلسوف، نظر الفيلسوف بصحة فهمه، فقال: لأمر ما بعث هذا الملك الحكيم هذا السمن إلي، فأجال فكره فيه، حتى ميز المراد به فدعا بنحو من ألف إبرة فغرز أطرافها في السمن ثم رد القدح إلى الإسكندر، فأمر الإسكندر أن يعمل من الإبر كرة مدورة، وأمر بردها إلى الفيلسوف، فلما وصلت إليه أمر ببسطها وأن يتخذ معها مرآة ترى صورة من قابلها من الأشخاص لصفائها، وأمر بردها إلى الإسكندر، فلما نظر إليها ورأى أحسن صورته فيها، دعا بطست، فحمل المرآة فيه، وأمر بإراقة الماء عليها حتى ترسب وأمر بحملها إلى الفيلسوف، فلما نظر إليها أمر بالمرآة، فصنع منها إناء، وجعله في الطست طافياً فوق الماء، وأمر برد ذلك إلى الإسكندر، فلما وصل إليه أمر أن يملأ ذلك الإناء من تراب ناعم، وأمر برده إلى الفيلسوف، فلما نظر الفيلسوف إلى ذلك تغير لونه، وجرت دموعه، وأمر برده إلى الإسكندر، من غير أن يحدث فيه شيئاً، فلما ورد الرسول على الإسكندر، وأخبر بفعله وحاله، تعجب منه، فلما كان في صبيحة تلك الليلة، جلس له الإسكندر جلوساً خاصاً، ودعا بالفيلسوف، ولم يكن رآه قبل ذلك، فلما أقبل، ونظر إليه الإسكندر، وتأمل قامته وصورته، رأى رجلاً معتدل البنية، حسن الخلقة، فقال في نفسه: إذا اجتمع حسن الصورة وحسن الفهم، كان صاحب ذلك واحد زمانه، ولست أشك أن هذا الفيلسوف قد اجتمع له الأمران، فإن كان هذا الفيلسوف علم كل ما راسلته به وأجابني عنه من غير مباحثة، فليس في زمانه أحد يدانيه في حكمته، وتأمل الفيلسوف الإسكندر عند دخوله عليه، والإسكندر ينظر إليه، فأدار الفيلسوف أصبعه السبابة حول وجهه ووضعها على طرف أنفه، وأسرع نحو الإسكندر وهو جالس على سرير ملكه، فحياه بتحية الملوك، فأشار إليه الإسكندر بالجلوس، فجلس حيث أمره، فقال له الإسكندر: ما بالك حين نظرت إلي أدرت أصبعك حول وجهك، ووضعتها على طرف أنفك؟ قال: تأملتك أيها الملك بنور عقلي، وصفاء مزاجي، فتبينت فكرك، وتأملك لحسن صورتي، فقلت في نفسي: إنه قد قال: إن هذه الصفة قل ما تجتمع مع الحكمة، فإذا كان هذا فصاحبها واحد زمانه، فأدرت أصبعي