وقال السندي بن شاهد قائد الخليفة: بعث إلي المأمون، وأنا بخراسان، فطويت المراحل، حتى أتيت باب أمير المؤمنين، وقد هاج بي الدم، فوجدته نائماً، فأعلمت قصتي الحاجب، وقدمت إليه عذري، وما هاج بي من الدم، وانصرفت إلى منزلي، فقلت: ائتوني بحجامي، فقالوا: هو محموم، قلت: فهاتوا حجاماً غيره، ولا يكون فضولياً، فآتوني به، فما هو إلا أن دارت يداه على وجهي، فقال: هذا وجه ما أعرفه، فمن أنت؟ قلت: السندي بن شاهد، قال: ومن أين قدمت؟ فإني أرى أثر السفر عليك، قلت: من خراسان، قال: وأي شيء أقدمك؟ وكم لك في الطريق؟ قلت: وجه أمير المؤمنين إلي، ولكن إذا فرغت سأخبرك بالقصة على وجهها إن شاء الله، قال: وتعرفني بالمنازل التي جئت عليها؟ قلت: نعم، قال: فما هو إلا أن فرغ ودخل رسول أمير المؤمنين، ومعه كركي، فقال: أمير المؤمنين يقرئك السلام، وهو يعذرك فيما هاج بك من الدم، وقد أمرك بالتخلف في منزلك حتى تغدو عليه إن شاء الله، ويقول: ما أهدي إلينا اليوم شيء غير هذا الكركي، فقال الحجام: يصنع كذا وكذا، فقلت: يصنع كما قال: وعزمت على الحجام ألا يبرح، فحضرت الغداء فتغدينا وهو معنا، ثم قدم الشراب، فلما دارت الأقداح قلت: يعلق الحجام في العقابين فعلق، ثم قلت له: إنك سألتني عن المنازل التي قدمت عليها، وأنا مشغول في ذلك الوقت، وأنا أقصها عليك الآن فاسمع: خرجت من خراسان وقت كذا، فنزلت بموضع كذا، يا غلام: أوجع، فاضربه عشرة أسواط، ثم خرجت إلى موضع كذا، يا غلام: أوجع، فاضربه عشرة أسواط مرة أخرى، فلم يزل يضربه لكل منزلة عشرة أسواط، حتى انتهى إلى سبعين سوطاً، فالتفت إلى الحجام وقال: يا سيدي، أين تريد تبلغ؟ قلت: سألتني بالله إلى بغداد، قال: ليس تبلغ والله إلى الري حتى تقتلني، قلت: فأتركك على ألا تعود؟ قال: والله لا عدت أبداً، قال: فتركته، وأمرت له بسبعين ديناراً، فلما دخلت على المأمون أخبرته الخبر، قال: وددت أنك بلغت به إلى الري على أن تأتي على نفسه.
وحكى الزبير بن بكار قال: كان بمكة رجل يجمع بين الرجال والنساء ويعمل لهم الشراب، فشكي إلى عامل مكة، فصرفه إلى عرفات، فبنى بها منزلاً، وأرسل إلى إخوانه وقال: فما يمنعكم من أن تعودوا لما كنتم فيه؟ قالوا: وأين بك وأنت في عرفات؟ قال: حمار بدرهمين، وقد صرتم إلى الأمن والنزهة، ففعلوا، فكانوا يركبون إليه، حتى أفسد أحداث مكة، فعاودوا شكايته إلى والي مكة، فأرسل فيه، فأتي به، فقال: يا عدو الله، طردناك من حرم الله، فصرت بفسادك إلى المشعر الأعظم؟ قال: يكذبون علي، أصلح الله الأمير، فقالوا: بذلك أصلحك الله على ما نقول، أن تأمر بحمير مكة وتجمع، وترسل بها أميناً إلى عرفات، فإن لم تقصد إلى منزله من بين المنازل لعادتها إذا ركبها سفهاؤنها فنحن مبطلون، فقال الوالي: إن في هذا دليلاً عدلاً، فأمر بحمير من حمير الكراء، فجمعت، ثم أرسلت، فسارت إلى منزله، حتى كأنها دلها عليه دليل، فأعلمه بذلك أمناؤه فقال: ما بعد هذا شيء، جردوه، فلما نظر إلى السياط قال: لابد، أصلحك الله، من ضربي؟ قال: نعم، يا عدو الله، قال: ما في ذلك شيء هو أشد علي من أن يشمت بنا أهل العراق، ويضحكون منا، ويقولون: أهل مكة يجيزون شهادة الحمير، فضحك الوالي، وخلى سبيله.
[الحديقة الثالثة]
في نوادر أولي العقول والألباب، وحكايات المستخفين والمغفلين من المولدين والأعراب وفيها ثلاثة أبواب:
[الباب الأول في النوادر المستغربة والنكت المستعذبة]
نظر القاضي إياس إلى ثلاث نسوة فزعن من شيء، فقال: هذه حامل، وهذه مرضع، وهذه بكر، فسئلن، فوجدن كذلك، فسئل. من أين علم ذلك؟ فقال: لما فزعن وضعت كل واحدة يدها على أهم المواضع لها، فوضعت الحامل يدها على بطنها، والمرض على ثديها، والبكر على فرجها.
وسمع نباح كلب، فقال: هذا نباح كلب مربوط على شفير بئر، فنظر، فكان كما قال، فقيل له في ذلك، فقال: سمعت عند نباحه دوياً، ثم سمعت بعده صوتاً يجيبه، فعلمت أنه عند بئر.