وتشبه هذه الحكاية حكاية إبراهيم بن المهدي، إذ تشفع إلى المأمون من طفيلي، قدمنا ذكره في الباب قبل هذا، فقال إبراهيم: يا أمير المؤمنين، هب لي ذنبه، أحدثك بحديث في التطفيل عن نفسي، قال: قل، قال: خرجت يوماً فمررت في سكك بغداد، فشممت رائحة أبزار وقذور قد فاحت، فسألت خياطاً عن رب الدار، فقال: هو رجل من التجار اسمه فلان، وخرج من شباك في أعلى الدار كف ومعصم، ما رأيت مثلهما قط، فذهب عقلي وبهت، فإذا رجلان مقبلان، فقال لي الخياط: هذان نديماه، وهما فلان وفلان، فحركت دابتي، ودخلت بينهما وقلت: قد استبطأكما أبو فلان، فأتينا الباب ودخلنا، فلم يشك صاحب الدار أني منهما، فرحب بي، وأجلسني في أجل موضع، فأتينا بالألوان، فكان طعمها أطيب من رائحتها، فقلت في نفسي: أكلت الألوان، وبقي الكف والمعصم، ثم سرنا إلى مجلس المنادمة، فإذا هو أنبل مجلس، وصاحب الدار يقبل باللطف والحديث علي؛ لما ظن أني منهما، فخرجت جارية تتثنى، كأنها خوط بان، فسلمت وجلست وأخذت عوداً وجسته، فتبينت الحذق في جسها، وغنت بهذا الصوت:
أشرت إليها: هل حفظت مودتي ... فردت بطرف العين: إني على العهد
فحدت عن الإظهار عمداً لسرها ... وحادت عن الإظهار أيضاً على العمد
فجاءني ما لم أملك معه نفسي، وقلت: السلام، ثم غنت:
أليس عجيباً أن بيتاً يضمنا ... وإياك، لا نخلو، ولا نتكلم؟
سوى أعين تشكو الهوى بجفونها ... وترجع أحشاء على النار تضرم
إشارة أفواه، وغمز حواجب ... وتكسير أجفان، وقلب متيم
فحسدتها على حذقها وقالت: يا جارية، بقي عليك شيء، فغضبت ورمت بالعود وقالت: متى كنتم تحضرون البغضاء في مجالسكم مثل هذا؟ فندمت، ورأيت تغير القوم، فدعوت بالعود وغنيت:
ما للمنازل لا يجبن حزينا ... أصممن أم بعد المدى فبلينا
راحوا العشية روحة مذكورة ... إن متن متنا، أو حيين حيينا
فأكبت على رجلي تقبلها وتقول: المعذرة يا سيدي، ما سمعت من يغنيه مثلك، وقام مولاها وصاحباه فصنعوا مثلها، وشربوا بالطاسات طرباً، ثم غنيت:
غداً محبك مطوياً على كمده ... صب مدامعه تجري على جسده
له يد تسأل الرحمن راحته ... مما به، ويد أخرى على كبده
يا من رأى كلفاً مستهدفاً أبداً ... كانت منيته في طرفه ويده
فصاحت الجارية: السلام، هذا، والله، الغناء يا مولاي، وسكروا، وأمر صاحب الدار غلمانه بحفظهم إلى منازلهم، وبقيت أشرب معه، وكان جيد الشراب، وقال لي: يا سيدي، ذهب، والله، ما خلا من أيامي باطلاً، إذ كنت لا أعرفك، فمن أنت؟ فأخبرته، فقبل رأسي، وقال لي: أنا أعجب من هذا الأدب، وسألني عن قصتي، فأخبرته خبر الطعام والمعصم، فأحضر جواريه فلم أره: فقال: ما بقي غير أمي وأختي، ولأنزلهما إليك، فعجبت من كرمه وسعة صدره، وقلت: أبدأ بالأخت، فلما رأيت معصمها قلت: هي هي، فأرسل إلي عشرة مشايخ، وأحضر بدرتين وقال: أشهدكم أني زوجت أختي فلانة من سيدي إبراهيم بن المهدي، وأمهرتها عنه عشرة آلاف درهم، فدفعت إليه بدرة، وفرقت الأخرى على المشايخ فانصرفوا، وقال لي: يا سيدي، أمهد لك بعض البيوت، فاحشمني، فقلت: بل أحملها إلى منزلي في عمارية، فو حقك يا أمير المؤمنين، لقد جمل إلي من جهازها ما ضاق عنه بعض دوري، فتعجب المأمون من كرمه، وأمر بإحضاره فصار من خواصه؛ لأجل كرمه.
[الباب الثالث في حكايات الأولياء والصلحاء والزهاد، وما يرجع إلى ذلك]
حدث محمد بن مسلم الرجل الصالح قال: رأيت يحيى بن أكثم في المنام فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: أوقفني بين يديه، وقال لي: يا شيخ السوء، لولا شيبتك لأحرقت بالنار، فأخذني ما يأخذ العبد بين يدي مولاه، فلما أفقت، قالها ثانياً وثالثاً، فقلت: يا رب، ما هكذا حدثت عنك، فقال تعالى: وما حدثت عني؛ قلت: حدثني عبد الرزاق قال: حدثني معمر بن راشد عن الزهري عن أنس بن مالك عن نبيك صلى الله عليه وسلم عن جبريل، عنك يا عظيم أنك قلت: "ما شاب لي عبد في الإسلام شيبة إلا استحييت أن أعذبه بالنار"، فقال الله تعالى: صدق عبد الرزاق وصدق معمر، وصدق الزهري، وصدق أنس، وصدق نبيي، وصدق جبريل، أنا قلت ذلك، انطلقوا به إلى الجنة.