ونظر يزيد بن مزيد الشيباني إلى رجل ذي لحية عظيمة، وقد تلففت على صدره وإذا هو خاضب، فقال: إنك من لحيتك في مئونة، فقال: أجل، ولذلك أقول:
لعمرك لو يعطي الأمير على اللحى ... لأصبحت قد أيسرت منه زماني
لها درهم للدهن في كل جمعة ... وآخر للحناء، يبتدران
ولولا نوال من يزيد بن مزيد ... لصوت في حافاتها الجلمان
فأمر له بعشرة آلاف درهم.
وحكى أبو جعفر الشيباني قال: أتانا يوماً أبو شاش الشاعر، ونحن في جماعة فقال: ما أنتم فيه؟ فقالوا: نذكر الزمان وفساده، قال: كلا، الزمان وعاء ما ألقي فيه من خير أو شر كان على حاله، ثم أنشأ يقول:
رأيت حلى تصان على أناس ... وأخلاقاً تزال، ولا تصان
يقولون الزمان به فساد ... وهم فسدوا، وما فسد الزمان
ودخل ابن عبدل على بشر بن مروان لما ولي الكوفة، فقال: أيها الأمير، إني رأيت رؤيا، فأذن لي أقصها، قال: قل، فقال:
أغفيت قبل الصبح، نوم مسهد ... في ساعة ما كنت قبل أنامها
فرأيت أنك رعتني بوليدة ... ممشوقة، حسن علي قيامها
وببدرة حملت إلي، وبغلة ... شهباء ناجية، يصل لجامها
فقال: أبشر بكل شيء قلته أو سمعته عندي، إلا البغلة، فليس عندي إلا دهماء، قال: امرأته طالق ثلاثاً، إن كنت رأيتها إلا دهماء، لكني غلطت.
وقال بعض الشعراء، قدمت على علي بن يحيى، فكتبت له:
رأيت في النوم أني راكب فرساً ... ولي وصيف، وفي كفي دنانير
فجئت مستبشراً، مستشعراً فرحاً ... وعند مثلك لي بالفعل تبشير
فوقع في آخر كتابي: (أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين) ثم أمر لي بكل ما رأيت في منامي.
ومن ملح الصاحب بن عباد، ما يحكى عنه أن بعض الشعراء كتب إليه:
أبا من عطاياه تدني الغنى ... إلى راحتي من نأى أو دنا
كسوت المقيمين والزائرين ... كساً، لم يخل مثلها ممكنا
وحاشية الدار يمشون في ... ثياب من الخز، إلا أنا
فقال الصاحب: قرأت في أخبار معن بن زائدة، أن رجلاً قال له: احملني أيها الأمير، فأمر له بناقة وفرس وبغلة وحمار وجارية، ثم قال: لو علمت أن الله خلق مركوباً غير ما أمرت لك به لحملتك عليه، وقد أمرنا لك بجبة وقميص ودراعة، وسراويل وعمامة ومنديل ومطرف، ورداء وكساء، وجورب وكيس، ولو علمت لباساً غير هذا لأعطيناك، ثم أمر بإدخاله إلى الخزانة.
وقال المفضل: دخلت على الرشيد، وبين يديه جارية مليحة شاعرة وورد قد أهديت إليه، فقال: يا مفضل قل في هذا الورد شيئاً تشبهه به، فقلت:
كأنه خد معشوق يقبله ... فم الحبيب وقد أبقى به خجلا
فقالت الجارية:
كأنه لون خدي، حين تدفعني ... كف الرشيد، لأمر يوجب الغسلا
فقال: قم يا مفضل؛ فإن هذه الماجنة قد هيجتنا، فقمت، وأرخيت الستور.
وقال بعض الرواة: دخلت على أبي العشائر، أعوده من علة، فقلت: ما يجد الأمير؟ فأشار إلى غلام قائم بين يديه، ثم أنشد:
أسقم هذا الغلام جسمي ... بما بعينيه من سقام
فتور عينيه من دلال ... أهدى فتوراً إلى عظامي
وامتزجت روحه بروحي ... تمازج الماء بالمدام
وشرب المأمون وعبيد الله بن طاهر ويحيى بن أكثم القاضي، فتعامل المأمون وابن طاهر على سكر يحيى، فغمزا به الساقي فأسكره، وكان بين أيديهم ردم من ورد وريحان، فأمر المأمون فشق له قبر في الردم، وصيراه فيه كأنه ميت، وعمل بيتي شعر وقال لمغنية: عن بهما على رأسه، فجلست عند رأسه وغنت بهما:
ناديته وهو حي لا حراك به ... مكفن في ثياب من رياحين
فقلت: قم، قال: رجلي لا تطاوعني ... فقلت: خذ، قال: كفي لا تواتيني
فانتبه يحيى لرنة العود والجارية بالبيتين فقال:
يا سيدي، وأمير الناس كلهم ... قد جار في حكمه من كان يسقيني
إني غفلت عن الساقي، فصيرني ... كما تراني سليب العقل والدين
لا أستطيع نهوضاً؛ قد ذوى بدني ... ولا أجيب لداع حين يدعوني