للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وخرج الحسن بن هانئ، وهو أبو نواس، ومعه مطيط حاجبه، حتى أتيا دار خمار، فقال أبو نواس لمطيط: ادخل بنا نتماجن على هذا الخمار، فدخلا، فلما سلما رد عليهما السلام، فقال له الحسن: أعندك خمر عتيقة؟ قال: عندي منها أجناس، فأي جنس تريد؟ قال: التي يقول فيها الشاعر:

حجبت حقبة وصينت فجاءت ... كجلاء العروس بعد الصيان

وكأن الأكف تصبغ من ضوء ... سناها، بالورس والزعفران

فملأ الخمار قدحاً من خمر صفراء، كأنها ذهب محلول، فشربه الحسن وقال: أريد أحسن من هذا، فقال الخمار: أي نوع تريد؟ فقال: التي يقول فيها الشاعر:

رققتها أيدي الهواجر، حتى ... صيرت جسمها كجسم الهواء

فهي كالنور في الإناء، وكا ... لنار، إذ ما تصير في الأحشاء

فملأ الخمار قدحاً من قهوة، كأنها العقيق، فشربه، وقال: أرفع من هذه أريد قال: أي جنس؟ قال: التي يقول فيها الشاعر:

فإذا حسا منها الوضيع ثلاثة ... سمح الوضيع بفعل ذي القدر

في لون ماء الغيث، إلا أنها ... بين الضلوع، كواقد الجمر

فملأ له القدح من خمرة بيضاء، كأنها ماء المزن، فشربه الحسن، فقال للخمار: أتعرفني قال: إي والله، يا سيدي، أنا أعرف الناس بك، قال: فمن أنا؟ قال: أنت الذي سكر من غير ثمن فضحك، وقال لمطيط: ادفع له ما معك من النفقة، فأعطاه مائة درهم وانصرف.

وكان بالبصرة رجل ذو ضياع، فأنفق ماله في الشراب، فباع ضيعة يوماً، فلما وقع البيع، قال المشتري: تأتي بالعشي أدفع ذلك المال وأشاهدك، قال له: لو كنت ممن يظهر بالعشي، ما بعت الضيعة، ثم أنشأ يقول:

أتلفت مالي في العقار ... وخرجت فيها عن عقار

حتى إذا كتب الكتاب، ... وجاءني رسل التجار

قالوا: الشهادة بالعشي، ... ونحن في صدر النهار

فأجبتهم؛ ردوا الكتاب، ... ولا تعيروا بانتظاري

لو كنت أظهر بالعشي، ... لما سمحت ببيع داري

وحكى الأصبهاني أن موسى بن داود الهاشمي عزم على الحج وقال لأبي دلامة: أحجج معي، ولك عشرة آلاف درهم، فقال: هاتها، فدفعها إليه، قال: فأخذها وهرب إلى السواد، فجعل ينفقها هنالك في شرب الخمر، فطلبه موسى فلم يقدر عليه، وخشي فوات الحج وخرج، فلما شارف القادسية إذا هو بأبي دلامة خارجاً من قرية إلى قرية أخرى، وهو سكران، فأمر بأخذه وتقييده، وطرح في محمل بين يديه، فلما سار غير بعيد، أقبل على موسى فناداه:

يا أيها الناس قولوا أجمعين معي ... صلى الإله على موسى بن داود

كأن ديباجتي خديه من ذهب ... إذا بدا لك في أثوابه السود

إني أعوذ بداود، وأعظمه ... من أن أكلف حجاً يا ابن داود

خبرت أن طريق الحج معطشة ... من الشراب، وما شربي بتصريد

والله ما في من أجر، فتطلبه ... ولا الثناء ولا ديني بمحمود

فقال موسى: ألقوه من المحمل، لعنه الله، فألقي فعاد إلى موضعه بالسواد، حتى أنفق المال.

وكان الحكم بن عبدل أعرج أحدب، هجاء خبيث الهجاء، وكان الشعراء يقفون بباب الملوك، فلا يؤذن لهم، وكان يكتب حاجته على عصاه ويدفعها، فلا تؤخر له حاجة، فقال يحيى بن نوفل:

عصا حكم بالباب أول داخل ... ونحن على الأبواب نقصى ونحجب

وكانت عصا موسى لفرعون آية ... وهذي

لعمر الله

أدهى وأعجب

وجلس المأمون يوماً للمظالم، فكان آخر من تقدم إليه امرأة، وقد هم بالقيام، وعليه أهبة السفر، وثياب رثة، فوقفت بين يديه وقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فنظر المأمون إلى يحيى بن أكثم القاضي، فقال يحيى: وعليك السلام يا أمة الله ورحمة الله وبركاته، تكلمي في حاجتك فقالت:

يا خير منتصب يرجى له الرشد ... ويا إماماً به قد أشرق البلد

تشكو إليك ... عميد الملك

أرملة

عدا عليها، فلم يترك لها لبد

وابتز مني ضياعاً بعد منعتها ... ظلماً وفرق مني الأهل والولد

فأطرق المأمون حيناً ثم رفع رأسه وقال:

في دون ما قلت، زال الصبر والجلد ... عني وأقرح مني القلب والكبد

هذا أوان صلاة العصر، فانصرفي ... وأحضري الخصم في اليوم الذي أعد

<<  <   >  >>