للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ودخل على أبي الشمقمق بعض إخوانه المتلطفين به، فلما رأوا سوء حاله، قالوا له: أبشر، أبا الشمقمق؛ فإنا روينا في بعض الحديث: أن العارين في الدنيا هم الكاسون يوم القيامة، فقال: إن صح هذا الحديث. والله، لا كنت أنا في ذلك اليوم إلا بزازاً، فأنشأ يقول:

أتراني أرى من الدهر يوماً ... لي فيه مطية غير رجلي

كلما كنت في جمع فقالوا: ... قربوا للرحيل، قربت نعلي

حيثما كنت، لا أخلف رحلا ... من رآني، فقد رآني ورحلي

وحكى محمد بن الحاج البزار، راوية بشار، قال: قال بشار يوماً، وهو يعبث، وكان مات له حمار قبل ذلك: رأيت حماري البارحة، فقلت: ويلك، قد مت، قال: إنك ركبتني يوم كذا، فمررنا على باب الصيدلاني، فرأيت أتاناً، فعشقتها، فمت، وأنشدني:

هام قلبي بأتان ... عند باب الصيدلاني

يتمتني، يوم رحنا ... بثناياها الحسان

وبغنج في دلال ... سل جسمي وبراني

ولها خد أسيل ... مثل خد الشنفراني

فبها مت، ولو عش ... ت، إذن طال هواني

فقال رجل من القوم: أبا معاذ، ما الشنفران؟ قال: هذا من غريب لغات الحمير، فإذا لقيتم حماراً فاسألوه.

وقال سفيان بن عيينة: دخلت الكوفة في يوم فيه مطر، فإذا كناس يفتح كنيفاً، ووقف على رأسه وهو يقول:

بلد طيب، ويوم مطير ... هذه روضة، وهذا غدير

ثم قال لصاحبه: انزل فيه، فأبى عليه، فنزل فيه وهو يقول:

لن يطيقوا أن ينزلوا، ونزلنا ... وأخو الحرب من يطيق النزولا

ليس كل الرجال يغشى لظى ... الحرب، ولا كلهم يلاقي الخيولا

وقال الأصمعي: بينما أنا بالبصرة، إذا بكناس يكنس كنيفاً، وإذا هو يقول:

فإياك والسكنى بدار مذلة ... تعد مسيئاً بعد أن كنت محسنا

فنفسك أكرمها، وإن ضاق مسكن ... عليك بها، فاطلب لنفسك مسكنا

قال: فوقفت عليه، وقلت له: والله ما بقي من الهوان شيء، إلا وقد امتهنتها به، فما الذي قلت من كرامتها؟ فقال: والله لكنس ألف كنيف، أحسن من القيام على باب مثلك.

وسأل أعرابي رجلاً يكنى أبا عمرو، فقال للسائل: يرزقك الله، فعاد إليه يوماً، فقال مثل ما قال أمس، وتنحنح، ففلتت منه ضرطة، فقال الأعرابي:

إن أبا عمرو لمكنوس الوسط ... إذا سألناه تمطى وضرط

إعطاؤه: يرزقك الله فقط ودخل طفيلي في صنيع رجل من أهل القبط، فقال له: من أرسل إليك؟ فجعل يقول:

أزوركم، لا أكافيكم بجفوتكم ... إن المحب إذا ما لم يزر زارا

فقال القبطي: زرزارا؟ ليس أدري ما هو، اخرج من بيتي.

ودخل أبو الفضل بديع الزمان على الصاحب بن عباد، ففرح به، وأجلسه معه، فأخرج البديع ريحاً منكرة، ثم أراد أن ينفي عن نفسه التهمة، فقال: يا مولاي، هذا صرير التخت، فقال له الصاحب: هذا صغير التحت فخرج البديع خجلاً، وانقطع عن الوصول إليه، فكتب إليه الصاحب:

قل للصفيري: لا تذهب على خجل ... من ضرطة أشبهت ناياً على عود

فإنها الريح، لا تستطيع تدفعها ... إذ لست أنت سليمان بن داود

وخرج المهدي يتصيد، ومعه علي بن سليمان، فسنح لهما قطيع من ظباء، فأرسلت الكلاب، وأجريت الخيل، فرمى المهدي بسهم، فصرع ظبياً، ورمى علي بن سليمان سهماً، فصرع كلباً، فقال أبو دلامة:

قد رمى المهدي ظبياً ... شق بالسهم فؤاده

وعلي بن سليمان، ... رمى كلباً، فصاده

فهنيئاً لهما، كل ... امرئٍ يأكل زاده

فضحك المهدي حتى كاد يسقك.

ومن ملح أبي دلامة، أنه دخل يوماً على المهدي، ومعه وجوه بني هاشم، فقال له المهدي: إني أعطيت الله عهداً لئن لم تهج كل من في هذا المجلس لأقطعن لسانك، فنظر إلى القوم، فكلما نظر إلى واحد غمزه بأن عليه رضاه، قال: فعلمت أني قد وقعت، وأنها عزمة من عزماته لابد منها، فلم أر أدعى للسلامة من هجاء نفسي، فقلت:

ألا أبلغ لديك أبا دلامة ... فليس من الكرام، ولا كرامة

إذا لبس العمامة كان قرداً ... وخنزيراً إذا نزع العمامة

جمعت ذمامة وجمعت لؤماً ... كذاك اللؤم تتبعه الذمامة

فإن تك قد أصبت نعيم دنيا ... فلا تفرح، فقد دنت القيامة

فضحكوا، وأعطاه كل واحد منهم جائزة.

<<  <   >  >>